بقلم الأستاذ: عبد القادر بن عزوز
الباحث في كتب السنة خصوصا والسيرة النبوية الشريفة عموما غالبا ما يمر أثناء قراءته لها بحادثتين عظيمتين في الإسلام وهما حادثتا الإسراء والمعراج والتي تعود أهل الحديث والسير(1) أن يسردوها علا الطريقة المعهودة في كتابة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بيان ليلة وقوعها وما جرى فيها من أحداث سواء أثناء الإسراء من مكة إلى بيت المقدس أي في عالم الشهادة، أو ما صادف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من أحداث في عالم الملكوت أو الغيب برفقة جبريل عليه السلام، وإذا كان علماء الأمة قد اجتهدوا ليجمعوا لنا سيرة المصطفى ووقائع الأحوال الخاصة بهذه الحادثة العظيمة فما أحوجنا للوقوف على المقاصد المرتبطة بها؟ أي ما هي المصالح الشرعية التي نجنيها بالاحتفال بها؟ وما هي الآثار التي تخلفها في نفس الفرد والمجتمع على حد السواء؟ وإن في النظر في كتب الحديث والسيرة النبوية والتفسير يمكن استنتاج المقاصد التالية:
واحد: مقصد توحيد الله سبحانه:
إنّ من أعظم المقاصد التي تتضمنها حادثة الإسراء والمعراج توحيد الله سبحانه ووصفه بكل صفات الكمال وتنزيهه عن كل نقصان، ودليل ذلك سياق الآية إذ أنها بدأت بقوله تعالى: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا...) (الإسراء1) حتى توجه أنظار الناس عموما وأهل مكة خصوصا إلى التعرف على قدرة الله وأنه قادر مقتدر قيوم على خلقه، وهذا دفعا لعقيدة الشرك لدى المجتمع العربي من نسبة الأفعال لغير الله سبحانه، أي عقيدة الشرك في الفاعلية ولكأنما الآية توجههم وتوجهنا إلى توحيد الربوبية وذلك بنسبة الأفعال إلى خالفها الحقيقي لا إلى الأوثان والتي ثبت في ضميرهم الجمعي أنها غير قادرة على الحركة والانتقال إلا بتحريك الآخرين لها؟ فكيف ينسب لها الخلق والتدبير؟ ومن هنا فالمصلحة الشرعية تقتضي من المجتمع أن يمعن النظر فيما ينسبه من تصرفات إلى غير الله سبحانه وأن ينتبه إلى هذا النوع من الشرك.
اثنان: مقصد بيان مستلزمات النبوةالخاتمة:
إن من مقاصد الإسراء والمعراج بيان أهمية النبوة الخاتمة، إذ أن الإنسانية ستشرع من الآن فصاعدا على السير وفق الرسالة الخاتمة والشاملة لكل الشرائع السماوية السابقة، والتي صيغت وفق قواعد كلية توافق بحريات وأحوال تغير الزمان والمكان.
وإن هذه الخاتمية تتجلى في حادثة الإسراء والمعراج بإمامة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه (2).
ويتجلى في هذه الإمامة مقصد عظيم وهو " أن الأنبياء مع كل الاختلافات الفرعية كانوا حملة رسالة واحدة وأتباعا لمدرسة واحدة، وقد عرضت هذه المدرسة تدريجيا حسب مقتضيات قابليات المجتمع الإنساني إلى الحد الذي وصلت فيه البشرية بحيث عرضت المدرسة كاملة جامعة، وعندما وصلت إلى هذه النقطة وصلت النبوة إلى النهاية" (3).
كما أن من مقاصد إمامة النبي للأنبياء إقرار مبدأ الشهادة أي الأمة الخاتمة على الأمم السابقة والمعاصرة لها بشرط توفر عناصر الشهادة فيها، وهو مقصد مهم في حياة الأمة الإسلامية رغم غفلتنا عنه.
ثلاثة: مقصد الابتلاء:
إن الناضر في تاريخ وأحوال وقوع حادثة الإسراء والمعراج يجدها وقعتا في مرحلة الجهر بالدعوة الإسلامية، وينقل لنا أصحاب السير حالة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه من المؤمنين وموقف قريش منهم، فكانت مرحلة محنة وابتلاء وتمحيص للإيمان كقصة آل ياسر المعروفة عند العام والخاص من المسلمين وقصة بلال وغيرهم رضي الله عنهم وفي هذه الظروف الصعبة جاء امتحان آخر للفئة المؤمنة بربها ولمدى تمسكها بأصول عقيدتها، وخاصة بعد الحرب النفسية التي شنتها قريش ضد النبي صلى الله عليه وسلم واتهامه بالكذب والجنون من ادعائه السفر في جزء من الليل من مكة المكرمة إلى بيت المقدس والذي كان في عرفهم وتجربتهم أن هذه المسافة تقطع في مدة شهرين (4) وإن هذه الحادثة كما ينقل لنا ابن هشام قد جعلت بعض المسلمين يرتدون عن الإسلام (5).
وعليه فالمصلحة الشرعية المستنبطة من حادثة الإسراء والمعراج أنه على الأمة ألا تغفل عن تهيئة الناس وتربيتهم على تقبل الابتلاء في صورتيه وما يتضمنه من خير أو شر وإلاّ استسلمت الأمة إلى الضعف والوهن.
أربعة: مقصد بيان مصير الإنسان:
إن الإنسان بطبعه ميال إلى البحث عما ينفعه ويحقق له مصالحه ولذاته وعن مسألة معرفة مآله أو مصيره بعد الموت شغلت عقله ولهذا جاءت الشرائع السماوية تبين له أن مصيره إلى الآخرة وأنه منذ بداية خلقه في رحم أمه مصيره يتدرج من مرحلة إلى أخرى، من مرحلة كونه جنينا، فالولادة فالطفولة، فالشباب، فالكهولة فالشيخوخة، ثم الموت وبعدها مرحلة الحياة البرزخية، فالآخرة، أي مصيره إلى الجنة أو النار.
وإن المتأمل في هذه السياحة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ثم من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى وما صادفه النبي الكريم من رؤيته للملائكة الكرام والأنبياء ووقوفه على الجنة والنار(6) وأحوال الناس فيهما وغير ذلك من أسرار الغيب يظهر لنا وبصورة جلية أهمية الإسراء والمعراج في إتيان حقائق الإيمان وأن الإنسانية جمعاء سوف تسير بعد وفاتها في عالم الآخرة في نفس المسار الذي سار فيه هذا النبي الكريم ونقف على حقائق الإيمان رؤية عين وبصر وإن مصير الإنسان إما إلى سعادة أو شقاء ؟ كما أن مقاصدهما بيان أن الجزاء من جنس العمل وأن أعمال الإنسان الخيرة أو الشريرة لها تجسيد في عالم الآخرة يجنيها صاحبها كما غرسها في حياته (7) ولعل من المصلحة الشرعية أن يحاول المسلم أن يقرب حقائق الإيمان للناس من عالم الشهادة أي قياس الغائب على الشاهد، وهذه حقيقة ممكنة لإقرار هذا الجانب العقدي في روح الإنسان، فمثلا لعل بعضنا يشكل على عقله كيف يتحول الكلام الطيب كالتسبيح إلى أجسام وحقائق في عالم الآخرة والأمر سهل إثباته في عالم الحس والمشاهدة، فأنظر مثلا إلى فكرة اختراع أمر ما؟ أليس بدايته مجرد تفكير وكلام؟ ولا يفتأ هذا التفكير أن ينقلب إلى صورة وجسم حقيقيين في عالم الشاهدة ينتفع به صاحبه أو يكون وبالا عليه؟ نحو السيارة والطائرة وغير ذلك.
خمسة: مقصد التيسير والرفق بالأمـة:
إن من مقاصد الشريعة الخاتمة أنها جاءت بمبدأ إقرار مقصد الرفق والتيسير، وأن الناس عموما وأهل الاجتهاد منهم خصوصا مطالبون بمراعاة هذا المقصد في اجتهاداتهم لما فيه من مصالح ترجع بالفائدة على الفرد والمجتمع بالحفاظ على الكليات الخمس في حياة الإنسانية، وإن هذه المصلحة، أي الرفق والتيسير يمكن أن نقف عليها في حادثة الإسراء والمعراج إذ نقرأ في كتب السنة الشريفة الحوار الذي جرى بين الرسول الخاتم وموسى عليهما الصلاة والسلام ومسألة التنقيص من الصلوات من خمسين صلاة إلى خمس صلوات في اليوم والليلة (البخاري) فحرص نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام على التنقيص من الصلوات دليل أن الرفق والتيسير صفة تتضمنها كل الشرائع السماوية وأنها من مقاصد الشريعة الخاتمة.
ستة: مقصد وحدة الأمة:
إن مقصد وحدة الأمة يتجلى في حادثة الإسراء والمعراج جليا واضحا فإن هذه السياحة التي قام بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بين مكة وبيت المقدس وإن كانت تسلية للنبي كما يذكر العلماء(8) لما أصابه وأتباعه من شدة أهل مكة إلا أن من مقاصدها أيضا تبشير المؤمنين الصادقين الصابرين أن رقعة الأمة ستتوسع وتمتد إلى بيت المقدس، إذ صلاة النبي فيه دلالة على فتحه.
ويدعمه جعله قبلة للمسلمين لمدة من الزمن أي مدة ثمانية أشهر من الهجرة(9)، كما أن من مقاصده الحفاظ على وحدة الأمة وعلى كيانها إذ أن سياق الآية يخبرنا عن الصراع الذي سيكون في الزمن المستقبل في عهد النبوة وبعدها وعلى أرض بيت المقدس بين أهل الإسلام واليهود(10)، ومن هنا فالمصلحة الشرعية من وراء الإسراء والمعراج الحفاظ على وحدة الأمة بتوفير وسائل ذلك من الاهتمام بمشاكل وفض المنازعات فيما بينها.
سبعة : مقصد تكريم الإنسان:
لقد رفعت حادثة الإسراء والمعراج من شأن الإنسان من كونه "مخلوقا صغيرا أو حيوانا ضعيفا وذا شعور عاجز إلى مقام رفيع ومرتبة عالية، بل أرقى مقام عزيز مكرم على جميع المخلوقات"(11) ولقد تضمنت هذه السياحة النبوية تكريما آخر تضمن في شرف النسبة فالمجتمع الجاهلي كان مدار شرف نسبته على العائلة والقبيلة والعبودية والحرية والمال والفقر...الخ إلا أن حادثة الإسراء والمعراج جاءت لتضع دستورا جديدا يتمثل في أن أعلى نسبة وأشرفها هي النسبة إلى الله سبحانه بالعبودية (أسري بعبده) أو على حدّ تعبير ابن العربي: "لو كان للنبي اسم أشرف منه لسمّاه به في تلك الحالة العلية"(12). وأما الوسيلة التي جاءت بها حادثة الإسراء والمعراج لتحقيق هذه النسبة، فهي الصلاة، والتي هي اتصال يوم للعبد مع خالقه سبحانه(13).
وهكذا فإن حادثة الإسراء والمعراج من مقاصدها "أن هذا العبد يحمل أمانة عظيمة متعلقة بجميع الكائنات، ومعه نور مبين ينير الكائنات، ويبدل ملامحها ويصبغها بصبغته، فضلا عن أن لديه مفتاحا يستطيع أن يفتح به باب السعادة الأبدية والنعيم المقيم"(14). وإن المصلحة الشرعية من هذه الحادثة أن يحقق الإنسان معنى الاستخلاف الحقيقي لأنه لا يتحقق معنى العبودية إلا به بعمارة الأرض وإقامة العدل والدعوة إلى الله سبحانه ...الخ.
وفي الأخير، فإن هذه جملة من المقاصد التي حاولت أن أقف عليها من خلال ما فهمته من حادثة الإسراء والمعراج والله الموفق.
الهوامش
1- انظر على سبيل التمثيل: صحيح البخاري: كتاب بدأ الخلق؛ مختصر سورة ابن هشام: 76-79 مختصر سيرة ابن كثير : 110-115.
2- تفسير القرطبي: 10/284، تفسير الكبري: 5/15، زاد المسير لابن الجوزي:2/183.
3- مرتضى المطهري: الوحي والنبوة: 25.
4- مختصر سيرة ابن هشام: 76.
5- نفس المصدر.
6- البخاري: كتاب بدأ الخلق؛ أبو داود: كتاب السنة؛ تفسير القرطبي: 10/207؛ تفسير البيضاوي: 5/225؛ زاد المسير: 9/37.
7- الكلمات، سعيد نورسي: 695.
8- مختصر سيرة ابن كثير: 103-108.
9- مختصر سيرة ابن هشام : 116.
10- اقرأ تفسير الآيات: 3-7 من سورة الإسراء، ومسألة صراع المسلمين واليهود.
11- الكلمات، سعيد نورسي: 698.
12- أحكام القرآن ابن العربي: 3/166-167.
13- المرجع السابق: 46.
14- نفسه: 497-468.