كيف نستقبل رمضان ؟

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله ، وحبيبه وصفيه ، وصفوته من خلقه أجمعين ، صلوات ربي وسلامه عليه ، وعلى آله وصحابته والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد : ــ عباد الله ــ

بعد أقل من أسبوع ، سنستقبل ضيفا وزائرا عزيزا كريما على الأمة الإسلامية قاطبة ، هذا الزائر الخفيف الظل ، الفائض الخيرات ، وهذا الضيف الذي تتنزل معه البركات ، وتفيض فيه الرحمات ، وتنسكب منه النعمات ، وكيف لا يكون بهذه الصفات ، وفيه أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، قال تعالى : " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" 01

قد جعل الله هذا الشهر محطة عظيمة في حياة الفرد المسلم ، يراجع فيها عمله ، ويحاسب نفسه، فيقوم الاعوجاج ، ويصلح الخطأ ،فالله قد جعل لعباده مناسبات للتقييم والتقويم ، مناسبات يومية وأسبوعية وسنوية ، وهي كلها بمثابة حمامات للتنظيف من أوساخ الذنوب ، وكدرات المعاصي والخطايا التي تقترفها القلوب ، وهي مدارس للتخلية والتحلية ، كما يقول السادة الصوفية،  ورجال الطرق الزكية ، التخلية من الأدران، وشوائب الفسوق والعصيان ، والتحلية بفيض النفحات الإيمانية ، وبركات الأعمال الروحانية ، وهي فرص لا يهدرها إلا سفيه ، ولا يضيعها إلا جاهل بمصالحه ومنافعه العاجلة والآجلة ،

أيها الإخوة المؤمنون:

لقد لخص رسول الله فوائد ومنافع هذه المحطات في حديث يقول فيه: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة 'كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر" 02

فالصلوات الخمس ، مدرسة نقيم فيها عملنا اليومي ، وصلاة الجمعة مدرسة نقيم فيها عملنا الأسبوعي ، و رمضان،مدرسة نقيم فيه عملنا السنوي، كما نقيم تلاميذ المدارس، وطلاب الجامعات فصليا وسنويا ، وبناء على هذا التقييم ، يصدر قرار مجلس الأساتذة في حق التلميذ والطالب ، بالنجاح أوالرسوب ، فليس قرار النجاح أوالرسوب ، قرارا عشوائيا يخضع لمحض الصدفة ، وحسن الحظ أو سوئه ، وإنما هو قرار مبني على تقييم عمل ،  وتقدير جهد، سلبا وإيجابا ، هكذا ستقيم أعمالنا يوم القيامة وتقدر ، فنجازى بما نستحق من ثواب أو عقاب، قال تعالى: ,,وأن ليس للإنسان إلا ما سعى،، 03 وقال ,,إنما تجزون ما كنتم تعملون،، 04 وقال : ٌ كل نفس بما كسبت رهينة ،، 05 إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تدل على هذا المعنى، وتصب في هذا السياق.

أيها الإخوة المومنون:

لنعد إلى المناسبة ، ولنرجع إلى المدرسة والتربص المغلق ، الذي سندخله جميعا، لنتربى فيه ونتعلم ، نتربى على القيم والمثل ، ونتعلم الأخلاق والفضائل ، نعيش في هذه المدرسة ليالي مع القرآن، وأياما مع الإيمان ، نظمأ نهارا، ونسهر ليلا ، لنرضي ربا، فنزداد منه قربا ، نظل مع الصائمين والصائمات ، ونبيت مع القائمين والقائمات ، لنكون ممن أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما في الجنات ، ورفعهم إلى أعلى الدرجات ، قال تعالى : "إن المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين  والمؤمنات، والقانتين والقانتات،  والصادقين والصادقات ، والصابرين والصابرات ، والخاشعين والخاشعات ، والمتصدقين والمتصدقات ، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات ، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ، أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ،، 06

أيها الإخوة المؤمنون:

إن الصوم عبادة قديمة قدم الأديان ، وراسخة رسوخ الإيمان ، كتبه الله علينا كما كتبه على الأمم قبلنا ، قال تعالى : "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" 07 وهذا التعليل القرآني لفريضة الصوم، وشعيرة الإمساك ، دافع وحافز لنا لأداء هذا الركن كما أمر الله ، لندرك الحكمة، ونقطف الثمرة ، وإلا فهو جوع بلا معنى ، وعطش بلا فائدة ، وتعب بلا حكمة ، كما جاء في الحديث  "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ،، 08

إن العبادات كلها للعباد، أما الصوم فإنه لرب العباد، وهو يجازيهم بصومهم في يوم المعاد ، فقد جاء في الحديث القدسي الجليل" كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ،  والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم ، فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله ، فليقل: إني صائم . والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك . للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربه فرح بصومه '' 09

فما أعظم أجر الصيام !!!، وما أكثر حسناته !!!، لوكانت وجهة العباد الحسنات ، وقصدهم نيل الدرجات ، وهدفهم بلوغ مرضات ، خالق الأرض والسموات.

عباد الله : إن لرمضان لنفحات، لمن يتعرض للنفحات، وإن للشهر لعظات، لمن يعتبر بالعظات، ويتعظ بالعبرات، وأولها عبرات الزمن، وعظات السنين، فبالأمس القريب، ودعنا رمضان، وها نحن اليوم نستقبله مثقلين بالأحزان، على تقصيرنا في حق الديان، وقد مرت سنة بالكمال والتمام، وبلا شك فات من السنين عام، والسؤال الذي ينبغي أن يوجهه كل منا إلى نفسه، ما الأعمال التي أنجزتها في هذه المدة؟ وما الحسنات التي أدخلتها إلى رصيدي في هذه الفترة ؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب ، فلنحمد الله على التوفيق، ولنشكره على التسديد ، وإذا كان بالسلب ،  فلنبك على التفريط ، ولنندب أعمارنا التي ضاعت سدى، وآجالنا التي ذهبت هدرا، لكن وكيفما كان الأمر والحال، فما تزال هناك فرصة لمن ينتهز الفرص ، ومناسبة لمن يستغل المناسبات، ويستدرك التقصير، ألا وهي مناسبة الشهر الكريم، وفرصة رمضان العظيم ، فرصة لتجديد العهد مع الله، وربط الصلة به ، وبناء المستقبل العاجل والآجل ، بناء المستقبل الآجل بالحسنات، والدرجات العلى في الجنات ، وبناء المستقبل العاجل بالفضائل  والأخلاق ، بناء مثل التضامن والتكافل الاجتماعي ، وقيم التعاون والترابط بين أفراد الأسر الصغيرة والكبيرة ، وباختصار بناء الفرد والمجتمع ، بناء المجتمع بالمعاني التي أشرنا لها ، وبناء الأفراد بالتزكية الروحية ، والتنمية النفسية ، فكونوا على موعد مع هذه الجامعة ، وهذا التكوين ، لتتخرجوا منه بشهادات عليا ، لا يختمها عمداء ولا دكاترة ، وإنما يختمها كرام كاتبون يعلمون ما تفعلون ، دون أن تعزب عن رب الكرام الكاتبين ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم هو الحي لا إله إلا هو فادعوه  مخلصين له الدين، والحمد لله رب العالمين .

الخطـــبة الثانيــة:

 

الحمد لله رب العالمين ،والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله ، صل اللهم وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحابته والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد ـ عباد الله ـ : ليكن لنا في هذا الشهر برنامج حافل وعامر بالأعمال ، الأعمال التي تقربنا من مولانا ، و تسعدنا في دنيانا وأخرانا ، برنامج للفرد ، وبرنامج للمجتمع ،ليكن جدول أعمال الأفراد مليئا بالعبادات الفردية ، من أذكار وتلاوة للقرآن ، وصلوات بالأسحار، وخلوات في دياجي الظلمات، وظلمات الليالي ، وبكاء  على ما فرطنا في جنب الله، وليكن ـ كذلك ـ جدول أعمال المجتمع عامرا بالعبادات الجماعية ، من إعمار لبيوت الله بالصلوات، وحلق العلم والذكر ، وقراءة الحزب الراتب في المساجد ، كما جرت بذلك تقاليد هذه الديار، منذ قرون وأعوام ، لنعزم العقد، ونعقد العزم ،  ونجزم النية، على أن يكون صومنا هذا العام صاف من كل الشوائب ، نقي من جميع الرواسب ، لنغير من نمط حياتنا في هذا الشهر نحو الأفضل والأحسن، ليغير الله ما بأنفسنا نحو الأعلى  والأرفع ، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، كما قال ـ تعالى ـ : ’’ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ،،10 وينبغي أن يكون هذا التغيير عاما وشاملا لجميع نواحي حياتنا ، ولكل أنماط سلوكاتنا ، تغيير في البيت والأسرة ،وتغيير في المجتمع والمحيط ، تغيير نحو منهج الرفعة ، وطريق العزة ، ولن يكون هذا التغيير جادا ومفيدا، إلا إذا فقهنا الصيام كما ينبغي ، وفهمنا فوائده حتى نهتدي ، وتعلمنا دروسه كما يتعلم الطالب الذكي، والتلميذ الحفي 11 ، دروس المدرسة ومحاضرات الجامعة ، فما أكثر الأغبياء والمتخلفين، الذين يدخلون مدرسة الصوم، ويخرجون منها كما دخلوها، دون فقه حكمة واحدة من حكم الصوم ، أو فهم عظة من عظاته، أواستيعاب درس من دروسه ، فإذا كان الصوم يعلم الاقتصاد وعدم التبذير ، فهل فهم هذا الدرس، أولئك الذين يملئون موائد مساحتها أمتارا مربعة، لثلاثة أو أربعة أفراد ، وما يرمونه في الزبالة أضعاف ما يأكلونه ، يملئونها ـ الموائد ـ بالضروري والحاجي والتحسيني ، وما ليس بضروري ولاحاجي ولا تحسيني .

هل فهم الدرس أولئك الذين يأكلون حتى التخمة ، وحتى بلوغ حد الخطر على صحتهم ؟.  فما أكثر ( الصائمين ) الذين يزداد وزنهم في شهر رمضان، وما يؤسف له هو انتشار أمراض الفقراء والأغنياء في مجتمعاتنا، مما يدل على أن فينا من يأكل بلا حدود، وفينا ـ أيضا ـ من يجوع حتى يدخل اللحود، أين هي حكم الصوم ومعانيه ؟

هل تعلم مجتمعنا من مدرسة الصوم معاني الرحمة والتكافل والتضامن إذا ضاعف الاحتكار والاستغلال ورفع أثمان السلع والبضائع الواسعة الاستهلاك، وبشكل افتعالي في كثير من الأحيان ، وإلا فما الذي تغير حتى ترتفع الأثمان وتغلي السلع، وعدد السكان هو ، والأولى أن يحدث العكس، أي أن ترخص السلع ، لقلة الاستهلاك في رمضان،  فمعظم الوقت، الناس صائمون ، وبمعنى آخر، أن الأولى هو أن ينقص معدل الاستهلاك في أربع وعشرين ساعة أيام رمضان،  أو على الأقل، أن يبقى في نفس المستوى، أما أن يزيد فتلك مصيبة، وستكون نتائج الصوم  عكسية، فبدل أن يخف الوزن، سيزيد ، وبدل أن تضعف الشهوة، ستقوى وتهيج ، وبدل أن تتحلى النفوس بالتقوى، ستزداد الرعونة وتطغى، وهكذا سيتحول رمضان إلى شيء آخر غير رمضان الذي أراده الله في قوله ـ تعالى ـ ’’ لعلكم تتقون،، إنه حال شبيه بحال تلميذ غبي، دخل المدرسة وخرج منها كما دخلها، دون أن يتعلم من دروسها أو ينهل من معارفها ، فهل يمكن لهذا التلميذ أن يدعي الانتساب يوما إلى المدرسة ؟؟

أيها الإخوة المؤمنون

ما أحوجنا إلى مراجعة صومنا وصلاتنا وسائر عباداتنا حتى نتعلم منها كما أراد الله ـ تعالى ـ منا ذلك.

فاللهم  ألهمنا رشدنا ، وعد بنا إلى سواء السبيل ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار.

عباد الله : إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، فاللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت ورحمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

ـ عباد الله ـ:

إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

01 ـ جزء من الآية رقم:185 من سورة البقرة

02 ـ رواه مسلم عن أبي هريرة

03 ـ الآية 39 من سورة النجم.

04 ـ جزء من الآية رقم 16 من سورة الطور.

05ــ  الآية 38 من سورة المدثر.

06 ــ الآية 35 من سورة الأحزاب.

07 ــ الآية 183 من سورة البقرة.

08 ــ رواه البخاري عن أبي هريرة.

09 ــ رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة . واللفظ للبخاري.

10 ــ جزء من الآية 11 من سورة الرعد.

11 ــ الحفي: الذي يعلم الشيء باستقصاء. قال ــ تعالى ــ : ’’ إنه كان بي حفيا،، جزء من الآية 47 من سورة مريم .

بتصرف من : المعجم العربي الحديث ص 456 : تأليف الدكتور خليل السجر ـ مكتبة لاروس. دون ذكر تاريخ الطبع

 

إعداد : الدباغي أحمادو

الصنف