نهاية السنة الميلادية-خطبة الجامع الكبير-

الخطبة الأولى:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكور الليل على النهار، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وأشهد أن لا إله إلا الله المتفرد بالبقاء، قضى على كل شيء بالفناء، كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والكبرياء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اصطفاه ربه لتبليغ رسالة السماء، فأدى الأمانة حق الأداء، وأوذي في سبيل الله أشد الإيذاء، صل اللهم وسلم على المبعوث رحمة للأصدقاء والأعداء، صلاة وسلاما متلازمين إلى يوم اللقاء، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون)، ألا وإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:

فقد قال الله تعالى في محكم التنزيل: ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، وكل شيء فصلناه تفصيلا).

عباد الله: إن سنة الله الجاريةَ في كونه اقتضت مرور الأيام، وتعاقب الليالي والأعوام، تَبَعًا لحركة الأفلاك والأقمار، سنة الله في خلقه، وحكمتَه في أمره، وتدبيره في كونه، فإذا تأملت كرور الأدهار، وتعاقبَ الليل والنهار، ورأيت الثوانيَ تجر الأيام، والأيامَ تجر الأعوام، والناس يذهبون بين ذلك أفواجا، ويمرون فرادى وأزواجا، ورأيت حركة طلوع الشمس من المشرق، وغيبتَها في المغرب، وما يتخللها من حركات دقائق الكون ما يُمَثِّل دبيبَ عوامل الفناء التي تَرُدُّ كل منظور إلى عالم الهباء، أيقنت بأن لكل أجل كتابا، ولكل بداية نهاية.

إن انقضاء عام ميلادي إيذان بدُنُوِّ أجلك أيها الإنسان، فهو نقصان من عمرك، وتقريب لأجلك، وإشارة إلى فناء هذه الدنيا التي ركنت إليها، واطمأننت إلى بهرجها، وتكالبت على حطامها.

    لقد متَّعك الله تعالى بنعمة الوقت لتغتنمه في مرضات الله، فضيَّعته في مساخط الله، فكنت مغبونا محسورا، قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

شغلت أوقاتك بالذنوب، وأمعنت في عصيان علام الغيوب، وأكثرت الكلام فيما لا يعنيك، وجمعت المال الذي يطغيك، أطلقت العنان للسانك للوقوع في أعراض الناس-نميمة وغيبة-، فما أبعدك عن الأكياس، ضيعت الصلاة والصيام، ومنعت حقوق الفقراء والأيتام، أسرفت على نفسك بالعصيان، وهجرت الذكر والقرآن، أكلت أموال الناس بالباطل، وترجو أن يوفيك الله الأجر الكامل.      

عباد الله: راجع حساباتك هذا العام، وقوِّم ما كان فيه من اعوجاج، واعقد العزم الأكيد على إصلاح ما قد فسد، وسلوكِ طريق الرشد، طالبا من الله العون والمدد، واجعل نصب عينيك قول الصادق المصدوق: (الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني).

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الحليم العظيم لي ولكم، ويا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، والصلاة على النبي المصطفى، ومن بآثاره اقتفى، وبعهد الله وفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

عباد الله: لقد نقُص من أعمارنا عام، وصعد بأعمالنا إلى الواحد العلام، ولن يرجع إلى يوم القيامة، فطوبى لمن اغتنم عامه بالأعمال الصالحة، فأفاد أمته، وشيَّد صرحها، وناضل من أجل القيم وبنى مجدها، وضحى في سبيل المبادئ وأعلى ذكرها، وسحقا لمن خان أمته وباع عرضها، وظلم العباد وأفسد في الأرض، وطغى فوقها، وأوبق نفسه المهالك، وأسخط ربها.

أمة الإسلام: إن الجزائر أمانة عظيمة في أعناقنا حكاما ومحكومين، فلنحافظ على مكتسباتها ومنجزاتها، ولنحذر من الانزلاق نحو الفتن والقلاقل، حتى لا ينطبق علينا قول الحق تعالى في بني إسرائيل: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار).

فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ولنزن أعمالنا قبل أن توزن علينا، ولنجدد العهد مع الله لبدء صفحة جديدة بيضاء في هذه السنة الميلادية الجديدة، ولنستعد للقاء الله بصالح الأعمال، قبل أن نفاجأ بانقضاء الآجال، إذ الأعمار بيد ذي القوة والجلال.

كتبَ الموت على الخلق فكم      فَلَّ من جمع وأفنى من دول

أين نمرود وكنعان ومــن      ملك الأمـر ووَلَّى وعـزل

أيـن عاد أين فرعون ومن      رفع الأهرام، من يَسْمَعْ يَخَلْ

أين من سادوا وشادوا وبنوا     هلك الكـلُّ ولم تُغْـنِ القُلَلْ

أين أرباب الحجى أهل النهى    أيـن أهل العلم والقومُ الأول

سيعيـد الله كُـلاًّ منهـم     وسيجـزي فاعلا ما قد فعل

"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون".

    عباد الله، إني داع فأمنوا:

اللهم لا تجعل في مقامنا هذا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا ضالا إلا هديته، ولا غائبا إلا رددته، ولا عدوا إلا خذلته وقصمته، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين.

اللهم إنا نسألك الإصلاح في الولد، والعافية في الجسد، والأمن في البلد.

اللهم احفظ حاكم البلاد بحفظك، واكلأه بكلاءتك، وأيده بتأييدك.

وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وأقم الصلاة.

                                                                      من إعداد: د.عماد بن عامر خطيب الجامع الكبير- الجزائر العاصمة

الصنف