الحرية الدينية أو حرية التعبد حسب ما يعتقده الإنسان من الشوائك التي تحتاج إلى فهم وفقه أثناء الحديث عنها، فعلى كل الأحوال أنت ملوم.. من دعاة التضييق ملوم، ومن أنصار الحرية ملوم!!
لكن الدكتور لؤي صافي في الجزء الثاني من حواره مع "مدارك" عن مفهوم الحرية يرى الأمر بطريقة مغايرة، حيث يؤكد أن الحرية الدينية مكفولة بنصوص تأسيسية يصعب الافتئات عليها.
ويشير إلى أن دعوات الكبت "غالبا ما تأتي من دوائر اجتماعية وثقافية لم تعرف التعددية الدينية، ولم تتمثل الخبرة الثقافية التاريخية الإسلامية، فأساءت لذلك فهم النصوص المرجعية الإسلامية".
وفي سياق الأدلة التي يرفعها الكثيرون دعما لما ينادون به من تقييد للحريات لفت صافي إلى أن السنة النبوية "تحتاج إلى ربطها بسياقها التاريخي كي تفهم فهما دقيقا"، مؤكدا أن "أحاديث الردة هذه استخدمت تاريخيا لتبرير التمرد العسكري على السلطة الحاكمة من قبل القبائل المعارضة، أو لتبرير التنكيل بالخصوم المعرضين من قبل الأمراء والسلاطين".
ودعا صافي الفقهاء والعلماء إلى "قراءة النصوص الإسلامية قراءة منهجية متكاملة، لا قراءة تجزيئية تختزل الخبرة التاريخية الثمينة التي ميزت الحضارة الإسلامية وجعلتها واحدة من أكثر الحضارات انفتاحا على الآخر، بل أكثرها حفظا للحقوق الدينية والمدنية".
لؤي صافي: هناك سوء توظيف لمفهوم الكفر
حوار - وحيد تاجا / 25-11-2009
الحرية الدينية أو حرية التعبد حسب ما يعتقده الإنسان من الشوائك التي تحتاج إلى فهم وفقه أثناء الحديث عنها، فعلى كل الأحوال أنت ملوم.. من دعاة التضييق ملوم، ومن أنصار الحرية ملوم!!
لكن الدكتور لؤي صافي في الجزء الثاني من حواره مع "مدارك" عن مفهوم الحرية يرى الأمر بطريقة مغايرة، حيث يؤكد أن الحرية الدينية مكفولة بنصوص تأسيسية يصعب الافتئات عليها.
ويشير إلى أن دعوات الكبت "غالبا ما تأتي من دوائر اجتماعية وثقافية لم تعرف التعددية الدينية، ولم تتمثل الخبرة الثقافية التاريخية الإسلامية، فأساءت لذلك فهم النصوص المرجعية الإسلامية".
وفي سياق الأدلة التي يرفعها الكثيرون دعما لما ينادون به من تقييد للحريات لفت صافي إلى أن السنة النبوية "تحتاج إلى ربطها بسياقها التاريخي كي تفهم فهما دقيقا"، مؤكدا أن "أحاديث الردة هذه استخدمت تاريخيا لتبرير التمرد العسكري على السلطة الحاكمة من قبل القبائل المعارضة، أو لتبرير التنكيل بالخصوم المعرضين من قبل الأمراء والسلاطين".
ودعا صافي الفقهاء والعلماء إلى "قراءة النصوص الإسلامية قراءة منهجية متكاملة، لا قراءة تجزيئية تختزل الخبرة التاريخية الثمينة التي ميزت الحضارة الإسلامية وجعلتها واحدة من أكثر الحضارات انفتاحا على الآخر، بل أكثرها حفظا للحقوق الدينية والمدنية".
وعن مفهوم الكفر واستعماله من قبل بعض الدعاة لفت صافي إلى أن " ثمة سوء فهم وسوء توظيف لمفهوم الكفر القرآني"، مشيرا إلى أن "القرآن يستخدم الكلمة في سياقات كثيرة -معظمها سلبي لكن بعضها إيجابي- تتطلب من القارئ لكتاب الله الكريم فهما واستنباطا للمعنى المقصود منها استنباطا صحيحا".
نص الحوار:
أزمة الحرية الدينية
* إذا انتقلنا إلى مستوى آخر وسألنا: هل توجد أزمة حرية دينية في واقعنا المعاصر عربيا وإسلاميا؟ وما السياق التاريخي الذي نشأ خلاله مفهوم الحرية الدينية؟ وكيف اكتسب أهميته القصوى؟
** نعم توجد أزمة حريات دينية نظرا لغياب الحريات العامة واستبداد الدولة بالقرار السياسي، ولعل أبرز مظاهر غياب الحرية الدينية تحكم الدولة بالأوقاف الدينية الخاصة وإنشاء وزارة خاصة بالأوقاف لتنظيم الحياة الدينية وفق قرار مركزي، وهي سابقة في الدول العربية لا نكاد نجد نظيرا لها في معظم دول العالم.
لقد عرفت المجتمعات الوثنية مفهوم التعددية الدينية التي سمحت لأتباع الديانات المختلفة باتباع طقوسهم الدينية، فنجد إمبراطورية كبيرة مثل الإمبراطورية الرومانية تسمح لرعاياها بممارسة شعائرهم الدينية ماداموا أعلنوا ولاءهم لسلطة روما، لكن الحرية الدينية لم تكن حقا محفوظا، بل منحة مرتبطة بتسامح الحاكم الروماني.
لذلك نجد أن اليهود الخاضعين للحكم الروماني أمروا بالاعتراف بألوهية قيصر في القرن الميلادي الأول، مما أدى إلى تعريضهم إلى إجراءات تعسفية عند رفضهم تأليه الإمبراطور، انتهت بتدمير معابدهم وترحيلهم من مدنهم وقراهم.
أول نص يؤكد حرية الإنسان في اتباع دينه وعقيدته هو النص القرآني الذي يؤكد أن حرية الاعتقاد حق ثابت، وأول عقد اجتماعي يؤسس لمجتمع سياسي تعددي هو الذي أسسه رسول الله (ص) في صحيفة المدينة التي حفظت لقبائل يثرب حريتها الدينية وجعلت الجميع، على اختلاف التزاماتهم الدينية، شركاء في الدولة الناشئة.
وأكدت الخبرة التاريخية الإسلامية تجذر هذه الحقوق في المجتمعات الإسلامية التي حفظت للأقليات المسيحية واليهودية حرياتها الدينية عبر تاريخ طويل، شمل فيما شمل صراعا عسكريا ضاريا بين المسلمين والصليبيين الذي جعلوا الرمز المسيحي شعارا لهم، لكن ذلك لم يؤد إلى أي تداعيات تذكر على الحريات الدينية للمسيحيين العرب.
التعددية الدينية والحريات الفردية التي ميزت المجتمعات الإسلامية، التي تعامل معها الفرنجة في المشرق العربي وتعامل معها الصقالبة في المغرب العربي عبر التجربة الإسلامية في الأندلس، أعطت النهضة الأوروبية أهم العناصر التي أدت إلى بروز المجتمع الغربي الحديث.
لاشك أن المجتمع الغربي الحديث أعطى العالم نموذجا جديدا متقدما لتنظيم المجتمع السياسي وفق قواعد سياسة تسمح لأفراد المجتمع السياسي بالمشاركة في تنظيم الدولة وصنع القرار السياسي، وطورت مؤسسات حديثة للدفاع عن الحقوق وحفظ الحريات الشخصية والدينية والسياسية.
من المهم أن نتذكر أن أوروبا لم تصل إلى التعددية الدينية إلا بعد حرب دينية بين الكنيسة الغربية والكنائس الإصلاحية استمرت مائة عام دفع خلالها المجتمع الأوروبي ثمنا باهظا، ومهدت هذه الحرب إلى قيام النظام العلماني الغربي الذي أخرج سلطة الكنيسة من الحياة السياسية، في حين منع الدولة من تنظيم الدين أو إجبار المواطنين على الخضوع إلى دين معين.
* القرآن ينص على حرية الاعتقاد وأنه لا يجوز للإنسان أن يُكرَه على اعتناق عقيدة معينة، فوضع بذلك الأسس النظرية المكينة للحرية الدينية، فهل استطاع المسلمون عبر تاريخهم أن يترجموا تلك الأسس إلى واقع علمي ملموس؟
** لم تكن الدولة في التاريخ الإسلامي دولة دينية بالمعنى الحديث للدولة الدينية، بل تمتعت بصلاحيات سياسية بحتة، والتزمت حماية المصالح والحريات المدنية لكل المنضوين تحت لوائها، سواء أكانوا مسلمين أم كتابيين أم أصحاب رسالات مغايرة.
ومنذ تأسيس أول مجتمع سياسي في المدينة حرص الرسول الكريم (ص) كما ذكرنا آنفا على تأسيس الدولة وفق مبادئ تحترم التعددية الدينية، وتمنح أتباع الديانات الحق في تقرير أسلوب حياتهم وقواعد سلوكهم، وترفض إرغام أي جماعة دينية أو ثقافية على الخضوع إلى الإملاءات الدينية والثقافية لجماعات دينية أخرى.
كذلك أعلن ميثاق المدينة الذي أقره رسول الله (ص) تساوي أبناء المدينة في الحقوق والواجبات العامة، التي تتعلق بحفظ أمن المدينة وتحقيق مصالح أبنائها، وتأكيد مبادئ العدل والإنصاف بينهم.
واستمر تعايش الجماعات الدينية والعقدية في سلام واحترام متبادل للحقوق والواجبات ضمن مجتمع تعددي، سمح لأبناء الديانات المختلفة بممارسة شعائرهم، واتباع أسلوب حياة يتناسب مع قيمهم ومعتقداتهم دون تدخل من دولة مركزية عبر التاريخ الإسلامي الطويل.
وبلغ المجتمع العربي والإسلامي في المشرق مرحلة متميزة من تطوير مؤسسات الدولة التعددية في القرون الخمسة الأخيرة التي سبقت قيام الدولة الحداثية المركزية، فقامت الدولة العثمانية بتقنين التعددية السياسية والإدارية والدينية ضمن النظام المللي الذي أعطى غير المسلمين استقلالية كبيرة على الأصعدة الثقافية والإدارية والتجارية والدينية.
* ضمن هذا الإطار كيف نفهم دعوة بعض علماء الدين لإلغاء مفهوم الحرية الدينية لأنه غير صحيح، من وجهة نظرهم، وقولهم إن الدين الإسلامي لم يبح فعلا حرية التعبد والاعتقاد وحرية الدعوة؟
** هذه الدعوات غالبا ما تأتي من دوائر اجتماعية وثقافية لم تعرف التعددية الدينية، ولم تتمثل الخبرة الثقافية التاريخية الإسلامية، فأساءت لذلك فهم النصوص المرجعية الإسلامية، خاصة سنة رسول الله (ص) والأحاديث المروية عنه، والتي تحتاج إلى ربطها بسياقها التاريخي كي تفهم فهما دقيقا.
بل نجدها تصر على قراءة النصوص من خلال خبرتها الأحادية المحدودة.. أنا أدعو هؤلاء إلى قراءة النصوص الإسلامية قراءة منهجية متكاملة، لا قراءة تجزيئية تختزل الخبرة التاريخية الثمينة التي ميزت الحضارة الإسلامية وجعلتها واحدة من أكثر الحضارات انفتاحا على الآخر، بل أكثرها حفظا للحقوق الدينية والمدنية.
* ولكن بعضهم يرون أيضا أن القول (لكل أحد الحرية في أن يقول ما يشاء) كلام باطل.. وكلمة الكفر تستحق أن يقتل صاحبها.. والكافر في الإسلام لا يستحق الحياة؟
** ثمة سوء فهم وسوء توظيف لمفهوم الكفر القرآني، فكلمة "كفر" وردت في القرآن إشارة إلى رفض مبدأ أو اعتقاد، لكن القرآن يستخدم الكلمة في سياقات كثيرة -معظمها سلبي لكن بعضها إيجابي- تتطلب من القارئ لكتاب الله الكريم فهما واستنباطا للمعنى المقصود منها استنباطا صحيحا، حيث نجد القرآن يستخدم كلمة "كفر" في مقابل كلمتي "إيمان" و "شكر"، كما يستخدمها للإشارة إلى "كفر" عام وخاص.
فالقرآن يستخدم كلمة "كفر" التي تعني أصلا الإخفاء والتغطية، إشارة إلى الموقف الرافض كليا للحق والمنحرف نحو الباطل: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" (البقرة 126)، كما يستخدم الكلمة إشارة إلى الإجحاف ونكران الجميل: " وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ" (لقمان 12).
كذلك يستخدم القرآن الكريم كلمة الكفر للإشارة إلى انحراف في الفهم وإخفاء للحق في دائرة عقدية محددة، كما في قوله تعالى إشارة إلى عقيدة التثليث المسيحية: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (المائدة 73).
فالكفر هنا كفر مرتبط بعقيدة التثليث لا بأصل الدين، لذلك لا يستخدم القرآن الكريم لفظ "الكافرين" للإشارة إلى أهل الكتاب جملة، بل يسميهم بالأسماء المعتمدة لديهم، اليهود والنصارى، أو يجملهم جميعا بلفظ أهل الكتاب.
بل إن القرآن ينقل إلينا كفر إبراهيم عليه السلام وصحبه بعقيدة الشرك ويدعو المسلمين إلى التأسي به عليه السلام والكفر بها أيضا: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ" (الممتحنة 4).
المشكلة التي يواجهها الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي اليوم هي انتشار المؤسسات التعليمية التي تتبع المنهجية النصوصية، وهي منهجية انتقائية، تنتقي النصوص التي تناسبها لتمرير مواقف وتجارب وثقافات محلية باسم الدين، ولقد ارتفعت أصوات هؤلاء في العقود الأخيرة عندما تراجعت مؤسسات التعليم الإسلامي في مراكز الإسلام الحضارية بعد أن تحولت تلك المؤسسات إلى مؤسسات خاضعة للدولة الحداثية، وتراجعت إمكانياتها المادية والبشرية.
أما القول بأن الكافر لا يستحق الحياة فهذا افتراء وتقوّل على أصول الإسلام، فالقراءة السليمة لنصوص الكتاب والسنة تظهر أن القتل لا يجوز بقول، بل يترتب على فعل قتل عمد أو عدوان صريح يستبيح الأنفس والأعراض والأمن.
بل إن صريح القرآن يجعل استباحة النفس بدون عدوان إثم كبير، ويجعل حفظها عملا عظيما: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" (المائدة 32).
الخانة.. والديانة
* هل تعتقد أن إصرار بعض الدول كمصر ألا تضمن خانة الديانة إلا بالديانات السماوية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) يعد ماسا بالحرية الدينية لمعتنقي الديانات الوضعية؟
** لا يمكن للدولة أن تتدخل في تعريف عقائد الناس في مجتمع حر، وأي تدخل يعنى منح الحاكم صلاحية تقدير أي المعتقدات ديني وأيها وضعي، ونحن نعلم أن المحاولة الوحيدة التي جرت في تاريخ المسلمين لإقحام الدولة في مسائل العقيدة جرت في أيام الواثق، عندما اعتبر الحكم في مسألة خلق القرآن من مسئوليات الدولة، لكن الخليفة تراجع عن موقفه بعد أن رفضت الأمة تدخل الدولة في قضايا الإيمان والاعتقاد على إثر تحرك شعبي واسع.
الموضع الطبيعي لحل قضايا الخلافات الدينية هو الحوار الديني، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، لكن استخدام القوة بدلا من الحجة في مقارعة أصحاب الانحراف غالبا ما يؤدي إلى تقويتهم وزيادة أتباعهم وأنصارهم نتيجة عطف العامة عليهم، على اعتبار أنهم مضطهدون ومستضعفون.
* حرية التحول من دين لآخر.. كيف تقرأ الاحتجاجات والاشتباكات التي تثور من آن لآخر في بعض البلدان العربية حول تغيير الإنسان لدينه؟ وكيف يمكن الحد منها؟
** يتعلق الإيمان بالحالة النفسية والروحية للفرد المؤمن، فهو قناعة ذاتية داخلية لا يمكن التحكم بها من الخارج، لذلك كانت التوجيهات القرآنية واضحة في هذا الإطار، فقد نهى الله تعالى عن إكراه الناس على الإيمان: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة 256)، وأمر رسوله بتخيير الناس بين الحق والباطل "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف 29)، ونهاه عن إكراههم على الإيمان: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس 99).
الآراء المعتمدة في قضايا التحول من دين إلى آخر انبنت بالأساس على نصوص نبوية اجتزئت من سياقها وقرئت في معزل عن نصوص الكتاب، أو آراء علماء انبنت على اجتهاد تاريخي مرتبط بخصوصيات اجتماعية وسياسية مختلفة عن تلك التي حكمت الرعيل الأول من المسلمين، أو تلك التي تحكم واقعنا المعاصر، فالقرآن استنكر الردة، ولكن لم ينزل فيها حدا أو عقوبة دنيوية سوى العقاب الأخروي.
الحديث المنسوب إلى رسول الله (ص)، "من بدل دينه فاقتلوه" يتعارض مع سنته العملية، فهو لم يجر حكم الردة على عبد الله بن سعد (أحد كتاب الوحي) الذي ارتد والتحق بقريش قبل فتح مكة، ثم جاء معتذرا إلى رسول لله بصحبة ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بعد الفتح، فقبل رسول الله شفاعة عثمان فيه دون أن يشترط عودته إلى الإسلام، وهناك دراسات معاصرة عديدة تظهر تناقض الموقف الفقهي المشهور مع الممارسات النبوية والتاريخية العملية في المجتمع الإسلامي.
أحاديث الردة هذه استخدمت تاريخيا لتبرير التمرد العسكري على السلطة الحاكمة من قبل القبائل المعارضة، أو لتبرير التنكيل بالخصوم المعرضين من قبل الأمراء والسلاطين.
لا بد للأمة التي تحمل الرسالة الخاتمة أن تثق بالحق الذي معها وتدرك أن المستقبل لدعاة الحق والخير والرحمة، وأن السيف يجب أن لا يشهر إلا في وجه عدوان سافر يستبيح الأنفس والأعراض والأموال، وأن نشر الحق يجب أن يعتمد على البيان والقدوة الحسنة، وكما يجب على المسلم أن يستنكر الإكراه إذا صدر من غير المسلم يجب عليه أن يستنكر صدوره من مسلم، والكيل بمكيالين فعل مرفوض من ملتزمي الحق والعدل أينما كانوا.
الشورى والحرية
* كيف ترى موقف الحركات الإسلامية، الجهادية منها والدعوية، من مسألة الحرية بشكل عام والحرية الدينية بشكل خاص؟
** أرى أن الوعي الإسلامي بضرورة بناء السلطة السياسية على أسس عامة والاحتكام إلى مؤسسات شورية في ازدياد، كذلك أرى أن ثمة قناعة متزايدة بضرورة نبذ العنف لحل الخلافات السياسية داخل المجتمع السياسي المدني، وإبقائه في دائرة رد العدوان الخارجي.
وأنا أؤكد أن رفض الإكراه السياسي والديني والدعم المتزايد للمؤسسات الشورية (أو الديمقراطية) التي تسمح بتداول السلطة السياسية وفق الدعم الشعبي والخيار الجماهيري هو الطريق الصحيح لإقامة مجتمع يحترم الحريات، ولعل النموذج التركي نموذج حري بالدراسة والفهم من قبل الحركات الإسلامية في العالم العربي.
* لا بد ونحن نتحدث عن الحرية أن نتطرق إلى موضوع الديمقراطية أيضا.. كيف تنظر إلى هذا المفهوم؟ وهل يمكن للأنظمة الإسلامية بشكل عام والحركات الإسلامية بشكل خاص أن تتمثل الديمقراطية فعلا وأن تنتجها؟
** كما ذكرت آنفا هناك توجه واضح لقبول مبدأ تحكيم الجمهور لاختيار السلطة السياسية، وهو ما يسمى اليوم بالنظام الديمقراطي، لكن الالتزام ليس كاملا، ويبدو أن بعض الحركات الإسلامية التي تنادي بالديمقراطية لم تتخذ الإجراءات العملية الكافية لتمثل مبدأ المشاركة السياسية في برامجها الداخلية ومناهجها التعليمية وكتاباتها السياسية والتربوية، والمطلوب من هذه الحركات أن تنتج أدبيات تأصل عمليا وعلى مستوى الأتباع لما تنادي به نظريا على مستوى القيادات.
* سؤال أخير.. في الوقت الذي يعاد فيه الاعتبار للتصوف، وتعقد المؤتمرات للاحتفال بـ "ابن عربي" مثلا في دمشق ومدريد.. نرى أحد كبار الدعاة في بلد عربي يهاجم التصوف ويعتبر المتصوفين من الكفار الذين يجب قتلهم.. ويقول إن "ابن عربي" من أكبر الزنادقة والكفار، وأن كتابه "فصوص الحكم" أكبر كتاب كفر وجد على ظهر الأرض.. ما قولك؟
** أصحاب هذه المقولات ينتمون إلى الجماعات التي تعتمد المنهجية النصوصية لقراءات نصوص الإسلام المرجعية، وتعرض الإسلام على أنه مجموعة من القواعد والأحكام الفقهية التي تهتم بالظاهر الاجتماعي والقانوني، ولكنها تتجاهل البعد الروحي الإيماني، بل الأخلاقي بمعناه العام، الذي هو مدار التنزيل، والرسول الأمين يقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
واقع التدين الذي وصلت إليه بعض الحركات الدعوية يتشابه في كثير من مناحيه بأخلاقيات بني إسرائيل الذين نقل لنا القرآن جانبا من تعاملهم السطحي مع الرسالة السماوية، كما نقل لنا لجاجتهم وعدوانهم على الرسل الذين أرسلوا لتأكيد معاني الرحمة والسماحة في رسالة السماء.
التصوف كما عرفته المجتمعات الإسلامية له ما له وعليه ما عليه، فمن ناحية ولد علاقات السادة والعبيد من خلال علاقة الشيخ العارف بمريده.. ومن ناحية أخرى قام بدور مهم بإحياء البعد الروحي الذي كاد يغيب مع تحول الحلقات الدراسية الإسلامية إلى حلقات فقه وأحكام بعيدة عن التوجيهات الوجدانية والسمو الروحي والأخلاقي، وهو ما دفع أبو حامد الغزالي، أحد أقطاب الفكر والفقه الإسلاميين، إلى تأليف كتاب إحياء علوم الدين لربط الأحكام الفقهية، أو ما سماه بفقه الظاهر، بأساسها الروحي والأخلاقي، أو ما سماه فقه الباطن.
كتابات ابن عربي ككتابات أي بشر غير معصوم تتضمن الغث والسمين، وقراءة متمعنة لكتابه "فصوص الحكم" تظهر تداخل الإشراقات الحكيمة التي تبعث على فهم دلالات الوحي فهما عميقا بالشطحات الصوفية التي عكس فيها الثقافة الدينية التي سادت عصره.
فهو مثلا يتصدى في الفص الثالث لمفهوم التنزيه المأخوذ عن الفلسفة الإغريقية التي شاعت في المجتمعات الإسلامية التاريخية، والتي تستبعد الخالق كليا عن خلقه، فتراه يرفض التنزيه الإغريقي لله ويراه نظير التشبيه، على اعتبار أنه يحول بين المؤمن ورؤية فعل الله في الخلق وتجليات علمه وحكمته ورحمته في الخليقة، وهذا طرح مهم اليوم في مجتمع إسلامي لا يرى أفراده آيات الله وأفعاله حولهم، على الرغم من أنها تملأ الآفاق والأنفس حولهم.
لكننا نرى ابن عربي يشطح في الفص الثاني عند الحديث عن الأولياء وختم الولاية، ليقدم أطروحات عديدة حول ختم الولاية انطلاقا من حديث رسول الله الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، والذي مثل فيه النبوة بالحائط، وجعل مثال صاحب الرسالة كمثال اللبنة التي أكملت الحائط: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"، فانتقال ابن عربي من هذا الحديث للكلام عن ختم للولاية تحكم دون دليل، ولعله لم ير شطحاته لأنه كان يحاور معاصريه، فخطابه المنطوق يتضمن خطابا مسكوتا عنه لشيوعه بين أقرانه.
هذا التراث يحتاج إلى تنقيح وتدقيق، وهذه هي مهمة العلماء المعاصرين القادرين على إثبات الثابت وبيان تهافت المتهافت، باعتماد قواعد وأصول معرفية، والعودة إلى مصادر الاعتقاد والبيان.
فالعالم الرباني الراسخ في العلم لا يشتم ويتهم ويحكم بالقتل والتنكيل على مخالفيه، ولا يلقي بهم في جنة أو في نار، لا يملك هو مفاتحها.. فهذه مهمة لا تناسبه ومنهج لا يليق به.. منهج التكفير والتهديد بالقتل والتنكيل منهج خوارجي، برز بين قبائل أعرابية وصفها الله جل وعلا بقوله "الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (التوبة 97).
وهو منهج رفضته الأمة واجتثته اجتثاثا مذ أن برز في قبائل بني تميم النجدية أيام الفتنة التي عصفت بالأمة في أواخر الخلافة الراشدة، وهو منهج عاد ليطل علينا بوجهه القبيح في سياق الفتن التي تعصف في الأمة اليوم، ولكن مصيره إلى زوال وأفول بإذن الله كما زال وأفل زمن الخوارج في مطلع الإسلام.
الشتم والتكفير والتخوين فجور في الخصام يجب على الأجيال الشابة نبذه ورفض مروجيه، ومطالبتهم بمقابلة القول بالقول والحجة بالحجة، بدلا من التترس بشعارات وعبارات يستخدمها أصحابها ومروجوها لترويع الخصوم وتكميم الأفواه، والاحتكام إلى السلطان الجائر المستبد، هروبا من مسئولية العلم وإخفاء لحقيقة الجهل.
نقلا عن موقع اسلام أونلاين ( مدارك )