الزكاة من منظور اقتصادي

الدكتور ، عبد المجيد قدي

الزكاة : ركن من أركان الإسلام وشعيرة من شعائره التعبدية ، إلا أن لها طابعا متميزا يتمثل في كونها بالإضافة إلى ذلك، وظيفة مالية .

ولقد وردت الزكاة لدى فرضها موضحة الجهات التي يجب أن تصرف إليها ، أي ربطت الإيراد بالإنفاق، وفي هذا ضمان كبير لعقلانية توجيه الموارد ورعاية دائمة لفئات اجتماعية معينة، أيا كانت طبيعة الحاكم الذي يحكم الدولة وأيا كانت الظروف الزمانية والمكانية ، ما دام أن حقها قدره الله سبحانه وتعالى .

ولهذا " يرى بعض الاقتصاديين أن تطبيق التخصيص في الدول النامية  سوف يحدث أثرا كبيرا في زيادة الإيرادات العامة لأنه يجعل الربط بين النفقات والإيرادات واضحا مما يدفع المواطن لدفع الضريبة المفروضة عليه ، وربما هدف القرآن من وراء ذلك إلى أهداف أخرى حتى لا تستغل إيرادات الزكاة لمصارف أخرى من غير تلك الواردة ".

ملاحظات حول معدل الزكاة : إن الزكاة في النقود والعروض ذات معدل نسبي ثابت، ولا يزال الفكر الضريبي الحديث يتخبط في نقاش حول ما إذا كانت النسبية أم التصاعدية هي الأفضل .

إلا أن الأساس النظري الذي بنيت عليه فكرة التصاعيدة – وهو المنفعة الحدية المتناقصة للنقود – غير سليم فضلا عما يثيره تطبيقا من مشاكل تتعلق بتحديد الشرائح والمعدلات التي يتم بها الانتقال من مستوى إلى مستوى آخر، وما هو الحد الذي تتوقف عنده حتى لا تتحول التصاعدية إلى أداة كابحة لرغبة الأفراد في التطور وتعظيم الدخول، وبالتالي فإن توفيقها في تحقيق العدالة ليس بالأمر الكبير، وبهذا نجد اليوم كثيرا ممن ينادون باستبدال الضرائب التصاعدية بضرائب نسبية  تطبق على الدخول اعتقادا منهم بأن أهم عيوب النظام الضريبي نابعة من تصاعدية الضرائب المباشرة .

كما أن النسبية اليوم تعتبر أكثر نجاعة في معالجة مشكلة التضخم التي أصبحت تسيطر على اهتمام العالم المعاصر من حيث أثرها على حجم الجباية حتى ظهرت فكرة تثبيت الضريبة في ضوء معدلات التضخم المرتفعة والمتسارعة.

ملاحظات أخرى يمكن أن نلاحظها على زكاة الإبل تتعلق باشتراط الإناث فيها والإناث هي التي يمكن الاستثمار فيها عن طريق التوالد، إذ الغاية من الزكاة هو أن توفر الوسائل للفقير والمسكين، حتى يخرج من دائرة الفقر إلى دائرة الكفاية .

كما أن الزكاة في الإبل لم تراع فقط الكم الواجب إخراجه ، وإنما راعت النوعية أيضا في الإخراج فتم التمييز بين الإناث على أساس أعمارها وهذا مهم جدا ، إذ أن القدرة على العطاء والإنجاب في الإبل تتحدد ببلوغها سنا معينة، فالحقة، مثلا هي التي تستحق أن يطرقها الفحل .

فحيازتها إذن تمكن  صاحبها من الحصول على مولود جديد خلال نفس العام ، بخلاف بنت المخاض التي تتطلب منه انتظار سنتين، وبنت اللبون ، التي نتطلب انتظار سنة على الأقل، من دون حساب أشهر الحمل، كما يمكن أن نلاحظ أنه بالرغم من انخفاض نصاب الإبل بالنسبة للبقر والغنم ، فإن الزكاة راعت في ذلك قيمة الإبل بالنسبة للبقر والغنم لهذا نجد إخراج  الزكاة في الإبل من غير جنسها إلى غاية وصولها  الأربعة من العشرين .

ثمة ملاحظة أخيرة تتعلق بكون الزكاة تراعي الظروف الاقتصادية  والاجتماعية للمكلفين، حيث إن السداد يكون بالوحدات العينة من جنس المال الذي وجبت فيه، وهذا انطلاقا من قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمين (( خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقر من البقر )) ( رواه أبو داود ).

وهذا من شأنه أن يخفف على المكلفين عبء الزكاة بحيث لا يتحملون تكاليف تحويل الأشياء إلى سيولة نقدية ، من جهة، ومن جهة أخرى حتى لا يتضرر مربو الماشية بزيادة عرضها بغية تسديد زكواتهم نقدا ، فيؤدي ذلك إلى انخفاض أسعارها .

وهذا يمكن أن يؤدي إلى انخفاض أرباح المربين، الأمر الذي يدفعهم إلى تغيير النشاط الاقتصادي .

علاقة الدولة بالزكاة: تعتبر الدولة في الإسلام هي المسؤولة عن الزكاة جباية وصرفا، وتتجلى هذه المسؤولية في الأمر الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره قائدا للدولة الإسلامية الأولى: ((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم )) [التوبة: 103].

وهذا الأمر نابع من طبيعة الزكاة التي تعتبر فرضا وواجبا، إذ أنها ليست مجرد إحسان فردي يبادر به الأفراد من تلقاء أنفسهم .

والعادة في الواجبات أنها تتطلب حماية من القوة العمومية حتى تؤدي على أحسن وجه فالزكاة "ليست إحسانا فرديا وإنما هي تنظيم اجتماعي تشرف عليه الدولة ويتولاه جهاز إداري منظم جباية ممن تجب عليهم وصرفا إلى من تجب لهم" .

ويمكن التدليل على أن الزكاة جهاز منظم من خلال وجود مصرف العاملين عليها ضمن مصارفها الثمانية .

وما يؤكد تولي الدولة مهمة الزكاة تهديد الرسول صلى الله عليه وسلم لمانعيها بقوله : "من أعطاها مؤتجرا فله أجره ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء" .

كما يؤكد هذا الدور تقنين الإسلام للعلاقة بين جابي الزكاة وبين دافعها ، وتحديد الصفات الواجب توفرها في القائم على الزكاة .

وبناء على هذا كان الرسول يرسل الجباة إلى الأمصار المفتوحة لجمع الزكاة ، فلقد أرسل معاذا بن جبل إلى اليمن، ورجلا يدعى أبا الوليد وابن التبية وغيرهم إلى الأمصار المفتوحة .

ولهذا اعتبر الخليفة أبو بكر الصديق دفع الزكاة دلالة على الطاعة والولاء، ولهذا حارب مانعي الزكاة وقاتلهم .

وشعورا من الخلفاء ، بعد الرسول، بأن الزكاة واجب من واجباتهم ، كانوا يرسلون الرسل إلى الأمصار، كان ذلك على عهد عمر وعثمان وعلي وغيرهم، حتى أنه يروى أن عمر بن عبد العزيز أرسل الرسل إلى إفريقية لجمع الزكاة وتوزيعها على المحتاجين هناك.

إن قيام الدولة بجمع الزكاة إنما يندرج في سياق حفظ كرامة الفرد، ومراعاة شعور أبناء المجتمع، فلو كان الأغنياء هم الذين يقومون بدفع الزكاة للفقراء مباشرة، لأحدث ذلك في نفوسهم انكسارا،  وربما عطل قدرتهم على التصرف بكل حرية لأنهم سيعتبرون أسارى جميل هؤلاء الأغنياء .

وحين تقوم الدولة بجمع الزكاة ، فإنها تقوم بإيصال حق إلى أصحابه باعتبارها كافلة حقوق ذوي الحقوق، كما أن قيام الدولة بجمع الزكاة يمكن من الموازنة بين الأصناف الثمانية وتقدير حاجات كل صنف، وهكذا تستطيع الزكاة  أن  تفعل فعلها في سد ثغرات المجتمع .

الدور التمويلي للزكاة : إذا نظرنا إلى الزكاة من حيث الوعاء لوجدناه واسعا بحيث يشمل جميع أنواع الدخل .

كما أن وعاء الزكاة يرتبط بمستوى النشاط الاقتصادي القائم في المجتمع وعادة ما يكون النشاط الاقتصادي في حالة نمو وتزايد مهما ضعفت معدلات نموه .

إن اتساع حجم وتنوع وعاء الزكاة ثم تنوع وتعدد المعدلات التي قد تصل في بعض الأنواع إلى 20 % من شأنه أن يوسع الحصيلة الزكوية .

فقد قام الأستاذ عبد الله طاهر بدراسة حول حصيلة الزكاة في بلدان العالم الإسلامي، وبالرغم من إغفاله لعدد من الأوعية وهي الثروة الحيوانية ، الأرصدة النقدية لدى الأفراد ، الأوراق المالية ومدخرات الأفراد من الذهب والفضة ، باعتبار أن الإحصائيات حولها غير متوفرة فقد توصل إلى النتائج التالية:

 

الدول الإسلامية

نسبة الزكاة إلى الناتج الداخلي الخام

المنتجة للنفط

بين 10- 14 %

غير المنتجة للنفط

بين 3.5 - 7 %

 

كما قام نفس الباحث مرة ثانية بمقارنة حصيلة الزكاة المقدرة مع الإيرادات العامة للدول الإسلامية فوجدها تتراوح ما بين 16-44 %  من إجمالي الإيرادات العامة .

أما إذا قورنت حصيلة الزكاة مع الإنفاق الاستثماري العام فإن النتائج في بعض الدول الإسلامية هي كالتالي :

الدول

النسبة إلى الانفاق الاستثماري العام

باكستان

172 %

عمان

157 %

الكويت

156 %

موريتانيا

146 %

 

أما بالنسبة لباقي الدول الإسلامية فهي تتراوح ما بين  23 – 90 %

وهذا يؤكد أن حصيلة الزكاة هي حصيلة مرتفعة ، وأنه بإمكانها أن تغطي الكثير من الحاجات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات الإسلامية.

إن الدور التمويلي للزكاة لا يقف عند الحصيلة المرتفعة فقط ، وإنما يتعدى إلى النظر في الكيفيات التي توجه بها الزكاة الأموال داخل المجتمع .

نحن نعلم أن الزكاة هي اقتطاع من رؤوس الأموال النقدية وهذا يعني بعبارة أخرى أنها ضريبة  ضد الاكتناز، وهذا من شأنه أن يجعل الزكاة تدفع المدخرات والمخزونات النقدية إلى مجال الاستثمار  حتى لا تتأكل نتيجة الاقتطاعات الزكوية .

إن هذا الأثر التأكلي هو الذي يدفع الأفراد إلى تحريك مخزوناتهم النقدية، والتالي مد حلقات الاستثمار بكل الأرصدة الموجودة لدى الأفراد، بحيث إن هؤلاء سوف يتحركون من أجل البحث عن مشاريع يكون عائدها قادرا على الأقل على تعويض ما تأخذه الزكاة .

وإذا نظرنا إلى مصارف الزكاة الثمانية لوجدنا أن أحد مصارفها هو " الغارمون "  وهم " الذين استدانوا في غير معصية الله ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عرض " .

ففي داخل المجتمع يمكن أن يوجد من يحجم عن إقراض الآخرين مخافة أن يتعرضوا لإفلاس أو يمتنعوا عن التسديد، نتيجة ضيق ذات اليد ، إلا أن الزكاة منحت لهؤلاء تأمينا على أموالهم بحيث أنه إذا ما وقع المحذور فإن في الزكاة سهما لمواجهة مثل هذه الحالات.

إن الزكاة في الإسلام تجعل الأفراد الذين لهم مخزونات نقدية وغير قادرين على استثمارها يفضلون إقراضها  للغير، وذلك أنه في ظل اقتصاد إسلامي لا يمكن للفرد أن يتجه إلى البنك من أجل الإيداع نظير فوائد ، إذا أن ذلك أكل للربا الذي حرمه الله ، في حين  أنهم إذا احتفظوا بها دون استثمار أو توظيف  فإنهم يؤدون  عنها الزكاة وهذا ما يؤدي بها إلى التأكل .

إن الرشادة تقتضي إذن منح هذه الأموال كقروض لذوي الحاجة ، لأن تلك الأموال ما دامت في ذمة المدينين فإن الزكاة لا تؤدي عنها .

وهكذا يتجلى لنا أن للزكاة دورا تمويلها من خلال حصيلتها الوافرة ومن خلال ما تحرره من أموال مكتترة ، فضلا عما تمنحه من تأمين وضمان لحركة الائتمان في المجتمع .

الدور التوزيعي للزكاة : إن الاقتصاد الإسلامي لا يعارض الملكية الخاصة طالما أنها تقوم بأداء الحقوق الواجبة عليها  ولا تؤدي إلى إلحاق الضرر بأفراد المجتمع ، وحيث إن الناس متفاوتون في قدراتهم ومستوى نشاطهم، فإن ذلك يؤدي إلى تفاوت في الثروة والداخل قد يقل وقد يكبر، إلا أنه من ناحية أخرى ، فإن من أهم المبادئ التي يرتكز عليها الاقتصاد الإسلامي هو مبدأ عدم السماح بتركز الثروة في يد فئة قليلة من الناس (( كي لا يكون  دولة بين الأغنياء منكم )) [ الحشر / 7 ].

إن عدم السماح بتركز الثروة في يد فئة من الناس لا يعني بحال من الأحوال تساوي الناس في الثروة، لأن ذلك من شأنه أن يدفع الأفراد إلى الكسل وإلى عدم الرغبة في المخاطرة والاستثمار طالما أن الحافز غير موجود.

ونظرة الإسلام إلى المال ذات طبيعة خاصة فهي تراه وسيلة من وسائل الإعمار والاستخلاف، ولا تسمح له بأن ينقلب  إلى أداة للجبروت والطغيان وما أكثر النصوص التي تشير إلى المترفين، وكونهم عنصر فساد وإفساد للمجتمع قال تعالى: ((إن الله يأمر بالعدل والإحيان)) [النحل/90].

إن الزكاة فريضة دائمة، تتصف أحكامها بالثبات النسبي، خاصة في المنصوص عليه بالقرآن والسنة، فمعدلاتها لا تخضع لا للزيادة ولا للنقصان، كما أنها لا تهتم بعائد العملية الإنتاجية فقط، وإنما تتعداه في كثير من الأحيان إلى رأس المال في حد ذاته حتى لا تطغى ولا يتجاوز حدوده ((كلا لا يطغى أن رآه استغنى)) [العلق /6-7].

ولتحقيق هذا الغرض خصص الله خمسة مصارف، من بين المصارف الثمانية، تأخذ الزكاة تحت مسمى الحاجة والفقر، ولا يمكن بحال من الأحوال وتحت أي ظرف من الظروف أن تبذل حصيلتها إلى غيرهم، إلا في حدود ما تبقى من الأصناف الثمانية.

ويتضح الأثر التوزيعي للزكاة في كونها تسعى إلى استئصال شأفة الفقر، إذ نجد الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى ضرورة الإغناء عن طريق الزكاة وهذا ما اهتدى به عمر رضي الله عنه فأرشد بدوره من بعده "إذا  أعطيتم فأغنوا" ، بل هناك من ذهب إلى إمكانية إنشاء مؤسسات تجارية وإنتاجية من مال الزكاة ويكون دخلها ملكا للفقراء والمساكين وحدهم.

إن الزكاة لا تعطى للقادرين على العمل وإن كانوا من الفقراء دفعا لهم إلى العمل .

والزكاة لا تتجاوز في هذا الشأن أن تمنحهم ما يمكنهم من شراء المعدات الإنتاجية أو شرائها لهم لأن  الإسلام " يؤمن بالترابط بين القيم  الاقتصادية والأخلاقية ، هذا الترابط الذي أهملته الرأسمالية في نظرتها الإباحية إلى الاقتصاد بينما نجد الرسول –صلى الله عليه وسلم- يعطينا في قضية المتسول الذي أتى يسأل يوما لقمة عيش كان من حقه أن يأخذها من المجتمع بنص من القرآن الكريم في الزكاة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أدرى الناس بتطبيقه ، كما كان أجود من الريح السخية في الربيع  لتقديم هذه اللقمة لمسكين جاء يطلبها ، ولكن أعمال النبي صلى الله عليه وسلم تشريع أو عبرة لأمته ، فأشار الرسول – صل الله عليه وسلم - على من حوله من الصحابة رضوان الله عليهم ، بأن يجهزوا هذا الفقير ليحتطب وأشار على الرجل أن يحتطب ليأكل من عمل يده " .

إن الزكاة في الإسلام ، تعتبر إعادة توزيع صافية للثروة والدخل لصالح الفقراء، إذ أنه " لا حظّ فيها لغنى ولا قويّ مكتسب" . كما أن الزكاة من ناحية ثانية لا يدفعها الفقراء، وإنما الأغنياء هم وحدهم الذين يدفعونها وهذا ما نجد الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى به معاذا عنه عندما بعثه إلى اليمن : ((... فأعلمهم أن الله تعالى اقترض عليهم صدقة في أموالهم ، تؤخذ من إغنيائهم وترد إلى فقرائهم )) [الجماعة]، وهذا بخلاف الضريبة التي نجدها حتى وإن أعفت مقدارا من الدخل إلا أنها تأتي عند الإنفاق أو الاستهلاك لتثقل كاهل الفقير، خاصة إذا سلمنا بأن الميل الحدي للاستهلاك  مرتفع عند الفقراء مقارنة بالشرائح الأخرى .

إن نظرة الإسلام إلى مسألة إعادة التوزيع نظرة متميزة ، فهو لم يترك هذا الدور لوسيلة واحدة وإنما أخضعها لنظام كامل ذي آليات مختلفة ، منه الزكاة ، العاقلة ، الوقف، الميراث، والوصية ، الدية ... وهذا حتى يتفاعل هذا النظام فيما بينه ويتوازن، بحيث إنه يستطيع حتى وإن ظهرت بعض السلبيات في تطبيق بعض الوسائل فإن وسيلة أخرى من نفس النظام تكون قادرة على إزالة هذا الأثر السلبي .

الدور التوجيهي والتعديلي للزكاة : إن من أهم اهتمامات السلطات الاقتصادية هو كيف يمكنها التدخل عن طريق آليات معينة لتصحيح الاختلالات وتوجيه  الاقتصاد، والزكاة  تعتبر آلية توجيهية.

نحاول التعرف على أثرها التوجيهي على متغيرين  اقتصاديين :

الاستثمار: إن تأثير الزكاة على الاستثمار بمكن أن يأخذ عدة أبعاد من أهمها :

أن الزكاة تقوم بدور تخصيص الموارد بين الاستهلاك الترفيهي والاستثمار، إذ نجد أن بعض الأفراد يقومون باقتناء أدوات الزينة والرفاه من المعادن الثمينة، وهذا يعتبر، اقتصاديا، تجميدا وتعطيلا للأموال واكتنازا غير مباشر لها ، فعمل الإسلام ، مثلما ترى بعض المذاهب الفقهية ، كالمالكية مثلا ، على فرض الزكاة على مثل هذه المقتنيات إذا كانت ذهبا أو فضة ، وعليه فإن الأفراد لا يستطيعون على المدى الطويل تحمل الإخراج المستمر للزكاة عنها ، وهي مجدة لا تدرّ أي عائد .

وهذا ما يدفعهم  في الأخير إلى إخراجها إلى مجال  الاستثمار حتى تحقق عائدا مجزيا يكفي على الأقل لتسديد نفقات الزكاة .

كما أنه بإمكان الزكاة القيام مقام تكلفة رأس المال بحيث يصبح معدا لها وسيلة للمفاضلة بين المشاريع من خلال عوائدها مقارنة بسعر الزكاة ، فيكون المشروع مقبولا إذا كان عائده أكبر من سعر الزكاة ، وبقدر ما يكون المشروع أكبر من حيث العائد يكون أفضل للاختيار.

وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن الاستثمار يجب أن يقتصر على المشاريع التي لها عائد مرتفع وترك المشاريع ذات العائد المنخفض، وإنما يجب أن تتكفل الدولة بمثل هذه المشاريع من أجل توفير الحاجات الأساسية لأفراد المجتمع .

الزكاة وتوطين المشاريع : إن الزكاة لا تؤثر على توطين المشاريع من خلال التأثير على المعدل أو السعر، وإنما تتدخل بطريقة توجيهية أخرى وهي التحكم في حصيلة الزكاة ، بحيث لا يسمح لها بالخروج من مكان تحصيلها إلى مكان آخر، إلا إذا تم استنفاد جمع فرص التوطين، واكتفاء لأصناف الثمانية كفاية تامة حين ذلك يجوز تقلها إلى الأبعد مع مراعاة الأقرب وهذا بهدف جعل الأفراد يراقبون بأنفسهم سبل صرف زكواتهم ، حتى يروا بأم أعينهم  نتائج مساهماتهم .

كما أن الزكاة من ناحية أخرى تدفع إلى توطين المشاريع الزراعية في المناطق النائية والصعبة من خلال تخفيف معدل الزكاة بالنصف عنه في المناطق  الأخرى ذات العيون والأمطار.

ضمانات الأداء في الزكاة : إن أهم المشكلات اليومية المطروحة على أن تجعل الأفراد  يصرحون بما عندهم من ثروة وأموال.

يدفعون ما عليهم من ضرائب مستحقة ، ذلك أن هناك ميلا كبيرا لدى الأفراد للتهرب مع دفع الضرائب.

فبينت بعض التقديرات في فرنسا أن المبالغ المتهرب من دفعها سنة 1976 تشكل ما بين 15-25% من مجموع الإيرادات الجبائية الشيء الذي يقابل 50-80 مليار فرنك فرنسي.

إن ظاهرة التهرب الضريبي ليست ظاهرة منعدمة الأسباب، إذ لها أسبابها الكثيرة والتي أهمها ما يلي :

أ‌-        فقد الثقة في سياسة الإنفاق العام ، إذ أن طريقة إنفاق حصيلة الضرائب تؤثر في نفسية

دافعي الضرائب، فإذا  كانت توجه إلى ميادين يستفيد منها المكلف، أو يطمئن إليها على الأقل، فإن هذا يدفعه إلى تسديد الضريبة والتصريح بممتلكاته  وأمواله عن طيب خاطر، أما إذا كان يرى أنها تنفق في مجالات لا يستفيد منها، أو في مصالح لا يطمئن إليها ، فإنه يحاول التخلص من دفع الضرائب.

ب‌-           ضعف الجهاز الضريبي من حيث الكفاية والتسيير والمراقبة ، بحيث إن هذا الضعف يمكّن

الأفراد والمؤسسات من التلاعب الضريبي.

ت‌-           الفراغ التشريعي والتناقض في القوانين يتيح للؤسسات والأفراد فرصا للتخلص من دفع

الضريبة، من خلال استخدام القانون في حد ذاته كلجوء المؤسسات إلى التخلص من دفع الضريبة على الأرباح التي توزع على المساهمين بتوزيعها كرواتب وأجور في شكل مخصصات لأعضاء مجلس الإدارة ، بذلك تصبح الضريبة ذات معدل منخفض نظرا  لأن معدل الضريبة على الرواتب والأجور أقل من معدل الضريبة على الأرباح بكثير.

ث‌-           الجانب النفسي الذي يجعل الأفراد يعتبرون دفع الضرائب قيدا على الحريات وتسلطا

يمارسه الحكام على شعوبهم، خاصة إذا تدعم هذا الاعتقاد بأنه لا نفع ولا عائد يحصل عليه الفرد من دفع الضريبة كما ينص على ذلك عادة في تعريفها .

ج‌-    تعقد وتنوع مكونات النظام الضريبي يجعل الأفراد لا يستطعون القدرة على التمييز بين

المواد الخاضعة للضريبة من غير الخاضعة لها ، مع العجز عن استيعاب الشروط والظروف المرتبطة ، بكل نوع من أنواع الضرائب، وهذا التعقيد يجعل الممول غير قادر على معرفة ولا على مراقبة الضرائب الواجبة الدفع ، الشيء الذي يجعله يهمل بعضا منها نتيجة  الجهل وعدم المعرفة .

ح‌-  تدهور الحالة الاقتصادية للأفراد وضعف مداخيلهم ، يجعلهم بعمدون إلى البحث عن طرائق

تمكنهم من تجنب دفع الضرائب، وربما لهذا السبب نجد البلدان تلجأ إلى فرض الضرائب غير المباشرة  لتفادي التهرب نظرا لضعف  المداخيل.

واليوم إذا كانت المجتمعات غير الإسلامية بما فيها المتقدمة منها تشكو من ظاهرة التهرب الضريبي نتيجة للأسباب المذكورة أعلاه ، فما هي الضمانات الموجودة  في الزكاة ، لجعل الأفراد يقدمون على التصريح بما عندهم ، ودفع الزكاة الواجبة عليهم ؟.

إن فرض الزكاة ربط جباياتها بمصارف إنفاقها ليتسنى للأفراد متابعة حصيلتها بأنفسهم ، وتأكيدا لهذا المبدأ والقاعدة نجد أن الإسلام اشترط أن تنفق في المكان الذي وجبت فيه وتم جمعها منه، ليرى الأفراد والمؤسسات آثار زكواتهم ومقدار مساهمتها في إصلاح الخلل الاجتماعي والاقتصادي.

ودعما لهذا الاتجاه منع الإسلام آل البيت أي أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم من أخذ الزكاة، ويحتمل أن يكون ذلك ناتجا عن كون الرسول قائدا للدولة الإسلامية ، وحتى لا يشعر الأفراد أن جزءا من حصيلة زكواتهم يذهب إلى أقارب الحاكم فيمتنعوا عن أداء الزكاة ، سد الإسلام هذه الثغرة بمنعهم الأخذ والاستفادة من مال الزكاة حتى وإن كان للفقهاء تبريرات أخرى تتعلق بهذا الموضوع .

حرص الإسلام الحرص الشديد على تولية الأمور الأكفاء القادرين على القيام بواجبات المسؤولية، باعتبار أن ذلك من قبيل الأمانة التي حض الإسلام على حفظها ، وقد شدد الرسول على الكفاية في تولية الأمور لأن عدم مراعاتها يؤدي إلى الخراب فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )) .

وقد نبه ابن خلدون إلى ضرورة استيفاء شروط الكفاية في الوظائف المالية التي كانت تسمى على عهده " ديوان الأعمال والجبايات " فقال : " اعلم أن هذه الوظيفة الضرورية للملك وهي القيام على أعمال الجبايات وحفظ حقوق الدولة في الداخل والخارج وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير  أرزاقهم ، وصرف أعطياتهم في إباناتها، والرجوع في ذلك إلى القوانين التي يرتبها قومه تلك الأعمال ... لا يقوم به إلا المهرة من أهل الأعمال " .

ولقد حرص الإسلام على مراعاة عنصري القوة والأمانة في اختيار الأفراد لتولي المهام فقال الله تعالى : ((إن خير من استأجرت القوي الأمين)) [القصص /26] ، إذ إنه " متى اجتمعت هاتان الصفتان الأمانة والكفاية في القائم بأداء أمر من الأمور تكلل عمله بالظفر وكفل له أسباب النجاح " .

وبهذا يكون الإسلام قد عمل على إنشاء أجهزة قوية لجمع الزكاة وصرفها ، مما يحول دون لجوء الأفراد إلى التفكير في التهرب من هذه الفريضة .

خ‌-  أما بخصوص مصدر التشريع في الزكاة ، فتعتبر فريضة من الله بنص من  القرآن الكريم وجاء

تحديد أنصبتها وأسعارها وأوعيتها عن طريق السنة النبوية .

ولهذا فإن التناقض غير موجود في نصوصها فضلا عما تتمتع به من ثبات وهيبة في نفوس المسلمين، كما أن الشكل الذي فرضت به الزكاة لا يتيح للأفراد منافذ كثيرة للتحايل عليها، حتى وإن كانت ثمة حيل كبيع المال قبل الحلول أو التصدق بجزء منه حتى ينخرم النصاب، فإن الفقهاء قرروا قاعدة " المعاملة بنقيض المقصود الفاسد " لمثل هؤلاء إذا تؤخذ منهم الزكاة قسرا.

د‌-    أما من الناحية النفسية فإن الفرد المسلم يرى في الزكاة أداة للعبادة وخضوعا للإله وليست

للفرد، كما أنه يمني نفسه في ذات الوقت بثواب وتطهير النفس في مقابل ذلك قال تعالى :

((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)) [التوبة /103].

ذ‌-   أما من حيث العلم بإجراءات الزكاة وأحكامها فيجد تفسيرا له في كونها أحد أركان الإسلام

الخمسة، التي تقتضي من المسلم أن يعرف على الأقل الخطوط العريضة والجوانب الكلية للزكاة بدافع إيماني أولا وبدافع جبائي ثانيا .

وهذا ما يقلل من التهرب الناتج عن الجهل بالقوانين وتعقدها في الضريبة.

كما أن ثبات الزكاة من حيث الأحكام يمكن من الاستيعاب الجيد لها ويرسخها في الذهن، في حين أن التعديلات التي تعرفها القوانين الضريبية اليوم باستمرار، هي إحدى الأسباب التي تحول دون فهم واستيعاب هذه القوانين، مما يؤدي إلى أخطاء في التطبيق تمثل حالات من حالات التهرب الضريبي.

ر‌-    أما بخصوص تدهور الأوضاع الاقتصادية التي تؤدي إلى التهرب من دفع الضرائب فإن

الإسلام حسم الأمور بشأنها في الزكاة من البداية ، حيث إن الزكاة هي فرض على الأغنياء الذين يملكون النصاب الزائد عن حاجاتهم الأصلية ، وبالتالي فإن الحاجة لن تكون مبررا كافيا لتهرب الأفراد من دفع الزكاة .

وهكذا نرى أن الأسباب التي تبرر لجوء الأفراد إلى التهرب من دفع الضرائب غير موجود في الزكاة أصلا، بالإضافة إلى ذلك فإن هناك مجموعة من الضمانات الأخرى وهي  كالتالي  :

ضمانات عقدية : بحيث إن الزكاة يتقرب بها العبد إلى ربه وقد ارتبط ذلك بمجموعة من النصوص تحذر  العباد من منع أداء زكواتهم مثل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : "ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا  البهائم لم يمطروا" ( ابن ماجة ).

كما أن هناك مجموعة من النصوص تعتبر أنّ آخذ الزكاة هو " الله " وتقرن ذلك بالتوبة التي يقبلها الله : ((ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات)) [التوبة 104].

هناك مجموعة من النصوص ذات طابع تشريعي تحذر من الاحتيال في دفع الزكاة وتوضيح معالجته من ذلك "لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة ".

ولقد تفنن الفقهاء في تعداد صور الحيَل المرتبطة بالبيع والهدية وغيرهما وقرروا بطلانها وانعدام أثرها .

من بين الضمانات أيضا تكليف الدولة بمهمة جمع الزكاة وتفريقها، مع تخويلها حق إعلان الحرب على مانعيها قال صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله )).( مسلم ).

كما أن دفع الزكاة عينا يعتبر إحدى الضمانات المرتبطة بعدم القدرة على الغش أو التحايل في تقويم الأصول الواجبة الزكاة ، إذ أن عملية التقويم تعتبر إحدى المنافذ التي تستعمل لتجنب جزء كبير من الضرائب.

قرر الإسلام مجموعة من العقوبات في حق مانعي الزكاة ، من ذلك العقوبات المالية فلقد روى الإمام أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فإنّا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى" وهذا يعني إباحة مصادرة نصف مال مانع الزكاة عقوبة له على فعله .

ربما تثار مسألة تتعلق بكون الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ترك أمر إخراج زكاة الأموال الباطنة، ( النقود والعروض التجارية ) إلى الأفراد نظرا لصعوبة مراقبتها ومتابعتها والأمر في ذلك اليوم يعود إلى بطلان الأسباب التي أدت إلى اعتماد هذا النهج ، ذلك أن :

أغلب الأموال النقدية أصبحت عبارة عن إيداعات في البنوك وصناديق التوفر ومراكز الصكوك أو أنها عبارة عن أسهم وسندات ، الشيء الذي يجعل مراقبتها أمرا ميسورا.

تعتبر الدول كلها أن مسك دفاتر المحاسبة في النشاط التجاري أمرا إلزاميا، يعاقب على مخالفته القانون ، وبالتالي فإن العروض التجارية لا تثير مشكلة اليوم نتيجة تقدم الفن المحاسبي وفن المراجعة .

وهكذا نرى أن الضمانات الموجودة في الزكاة أوفر من تلك الموجودة في الضريبة لانعدام أسباب التهرب الموجودة في الضريبة من جهة ولاعتبارات أخلاقية وعقدية من ناحية ثانية .

ومن  خلال العرض السابق يمكن أن نستنتج أن الزكاة يمكنها أن تساهم بشكل فعال في معالجة الكثير من المشاكل الاقتصادية في دول العالم الإسلامي، الذي يجعل التفكير في تنظيمها وإحيائها في شكل مؤسساتي مسألة ذات  أولوية خاصة  في الوقت الذي تعاني منه هذه الدول من اختلالات شتى في الحياة الاقتصادية.

نُشر هذا المقال في العدد الثاني ، السنة الأولى، رجب 1424هـ/سبتمبر 2003م