سائل - الجزائر
الإمام الأستاذ محمد شارف عضو لجنة الفتوى بوزارة الشؤون الدينية و الأوقاف
السؤال:
القضاء والقدر
الجـواب:
والجواب عنه صعب في الجملة، ونحن ننقل ما كتب فيه المعاصرون ثم نأتي بما استقر في فهمنا حسب ما يظهر من الآيات والأحاديث الواردة في شأنهما، فنقول وبالله التوفيق: إن عموم سلطة الله تعالى تقررت على جميع ما كان وما يكون، طبقَ ما سبقت إليه إرادة الله تعالى، فلا يقع في الكون إلا ما أراد الله تعالى، خيرا كان أم غيرا، وعلى هذا أجمعت كتب أهل السنة واتفق عليه السنيون منهم، ثم إن العباد أعمالهم ـ قولية كانت أم أفعالا ـ لا تخرج عن سلطة الله. وعليه فهم من ناحية الظاهر مسؤلون عن ما يصدر عنهم من خير وشر، لأن الله كلفهم وجعل ما يعملون يحملون آثاره فيجازون عليها. وأما الباطن الذي لا يظهرون عليه فهم مسيّرون عليه، فإن كان خيرا أثيبوا عليه، وإن كان شرا عوقبوا عليه، كما قال تعالى: "فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه، وإنا له كاتبون"(1)، وهذا الخطاب يقتضي ظاهرهُ أن العبد رغم أنه مسير بإرادة الله، غير أنه مخير، وهو شيء تقْصُر عنه الأفهام، وتنقطع عنده العقول، فلا يسعها إلا تطبيق أمر ربها ونهيه لما ركب في الأجسام من العقل، وما جعل فيها من التمييز، قال تعالى: "ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين" (2)، وقد سئل الحسن البصري رحمه الله عن هذا الموضوع فكان الجواب عنه: ((إن الله قضى بأشياء وأخفاها، وأمر بأشياء وأظهرها، ولم يكلفنا بالبحث عما يغيب، فما لنا نشتغل بما أخفى عنا عما أظهر لنا)). أو كما قال. وعليه فأعمال العباد لا تخرج عن سلطة الله وإرادته، فهو الذي قدرها وقضاها لأنه خالقها، قال الله تعالى: "والله خلقكم وما تعملون"(3)، وصح ذلك فقد أمرهم ونهاهم وكلفهم بذلك، فمن أطاع ربه وامتثل لأمره ونهيه، كان جزاؤه دار النعيم في الآخرة، ومن انصرف عن ذلك ومات من غير توبة فهو في المشيئة، إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه، قال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"(4)، وقال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أصحاب الصحيح في حديث طويل رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه في شأن مبايعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قوله: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نزني، ولا نسرق، ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصي في معروف"، ثم قال: "فمن وفى بذلك منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب عليه في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه"، قال: فبايعناه على ذلك"(5). أو كما قال. فهذا يفيد بظاهره أن من خالف أمر الله في أمره ونهيه فهو يستحق العقاب إلا أن يعفو الله عنه، مع أن ما يفعل الشخص هو من قضاء الله وقدره، غير أنه أخفاه عنه لسر يعلمه فيه. فمسألة القضاء والقدر غامضة كل الغموض، فالواجب الإيمان بها "قل كل من عند الله" (6)، وعدم البحث عن حقيقتها التي لا يعلمها إلا الله، فالواجب على المكلف هو السعي في ما يظهر له من أمر الله ونهيه فيقف عند أمره ونهيه وينطلق للعمل ما استطاع، فهذا هو المخرج الوحيد من هذا المضيق الذي لا يوفق إلى الخروج منه إلا المخلصون. وعندي أن أمر القضاء والقدر يتماشى حسب الزمان فما مضى منه فهذا يستطيع الشخص أن يقول فيه: إن الله قضى عليّ وقدر لي فعله، وأما ما يستقبل من الزمن فلا يتبع الشخص هواه ويقول: هو بقضاء الله وقدره، فهذا مخطئ في اعتقاده فيه، بل هو متعمد الخطيئة ظالم لنفسه فيه، ولنرجع إلى ما كان المسلمون الأولون عليه في اعتقادهم في هذه المسألة، فقد كانوا في غنى عن البحث في مثل ما سلك فيه الذين بعدهم فقد كانوا سائرين على الجادة التي لا عوج فيها ولا انحراف، وما كانوا يشغلون أنفسهم بهذا التدقيق الذي خاض فيه المتأخرون من التعمق الذي لا يعنيهم كثيرا، بل كانوا يأخذون دينهم من الكتاب والسنة، فما فهموه منهما بدون ما ينقص من جانب ربهم شيئا مشوا عليه، وما لم يفهموه وَكَّلُوا علمه فيه إلى ربهم وآمنوا به بدون الخوض فيما قد يفسد عقيدتهم في خالقهم، ثم يقبلون على شأنهم في أمور معاشهم وأحوال معادهم، وبذلك سلم إيمانهم من الشك وارتفع سلطانهم وعلت كلمتهم. وما جاء هذا لمن بعدهم إلا بعد أن اختلط المسلمون بغيرهم ممن لم يعتقد اعتقادهم من أهل خراسان وفارس وغيرهم، وكثر القول في مدى أفعال الإنسان واختياره ظاهرا، فاندفع المسلمون إلى التفكير فيما عرض لهم من المسائل واعترضتهم مشاكل كانت سبب الخلاف الذي حدث بين أهل السنة وغيرهم من المعتزلة والخوارج وغيرهم من أهل النحل الحادثة في الإسلام. وعليه فالمذهب السالم من المشاكل المختلطة للعقل البشري القاصر على أفعال العباد أمام قضاء الله وقدره هو أن نعتقد أن الله وإرادته وفعله لا تخرج أية نسمة عنهما، فهو الخالق لها، والمريد لها، والفاعل لها، وأن العبد حسب ما كلفه الله من فعل المأمور وترك المنهي، له ما كسب وعليه ما اكتسب، وأن العبد له مشيئة حادثة متصلة بمشيئة ربه تتحرك بها وتقف بها، فأفعاله في الحقيقة هي من قضاء الله وقدره، وتحرك العبد في أفعاله هي بمشيئته ظاهرا وإن كانت بمشيئة الله باطنا، ولما كان الله فعالا لما يريد ولا راد لما قضاه على العبد فقد رتب الثواب والعقاب حسب ظاهر قدرة العبد وإرادته، ليطابق بين قدرته تعالى وإرادته هو، وكون الأشياء لا تخرج عن ذلك "و ما تشاءون إلا أن يشاء الله" (7)، "ور بكـ يخلق ما يشاء ويخـتار ما كان لهم الخيرة" (8)، فالسعيد من طبق ظاهر الشريعة على نفسه، ولم يلتفت إلى ما غاب عن حسه، لأنه ليس بسبيله، والشقي عياذا بالله من اشتغل بالقيل والقال وكثرة السؤال وحال ذلك بينه وبين ترويض نفسه على العمل الصالح والابتعاد عن الطالح. والله يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم. ---------------- (1) سورة الأنبياء/94. (2) سورة البلد/8 ـ 10. (3) سورة الصافات/96. (4) سورة النساء/48 و 116. (5) سبق تخريجه في الجواب عن السؤال "حكم المسلم الذي يموت بدون توبة من الكبائر". (6) سورة النساء/78. (7) سورة التكوير/29. (8) سورة القصص/68.
الصنف