خطبة عيد الفطر المبارك -الجامع الكبير-

الخطبةالأولى:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

فياأيهاالمسلمون: هذا يوم عيد الفطر، وهو يوم من أيام الله بين عباده، هو يوم فرحة عامة، ليست فرحة فرد، ولا بيت، ولا جماعة على حدتها، بل هي فرحة عامة لأبناء الإسلام طُرًّا، وديار المسلمين في شتى بقاع الأرض.

وقد أذن رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذه الفرحة بل نوه بها حين قال "للصائمفرحتان،فرحةيومفطره،وفرحةيوملقاءربه"، والفرح لذة في القلب بسبب حصول أمر محبوب، وانشراح في الصدر عند بلوغ مقصد مرغوب. وأي مقصد أسمى وأسنا من أن يوفق العبد لطاعة ربه، وإنفاذ أوامره على الوجه الذي يحبه ويرضاه قال تعالى " قلبفضلاللهورحمتهفبذلكفليفرحواهوخيرممايجمعون"

فرحة يوم العيد هي فرحة العامل الذي أخلص في عمله، وأقبل على بارئه يصطلح معه يجدد البيعة له، هي فرحة المجاهد الذي قصر شهواته، وقاوم رغباته وحرم نفسه الطعام والشراب، و زان أيامه بالصيام، ولياليه بالقيام وعمّر أوقاته بتلاوة القرآن ورطّب لسانه بذكر الواحد الديّان ثم أقبل على الرحيم الرحمن يستنجز وعده ويسأله عطائه ورفده،  قال صلى الله عليه وسلم " الصومنصفالصبر" وقال تعالى " إنمايوفىالصابرونأجرهمبغيرحساب".

والعيد أيها الإخوة يوحي بالعود فهو يعود كل عام، وهذه العودة المكررة من العيد بعد كل مرحلة من مراحل العمل والمجاهدة في المجال الديني المخلص، أو العمل الدنيوي الموفق، توحي إلى الإنسان بتكرار المحاولة لتحقيق ما يؤمن به من أهداف ومبادئ في هذه الحياة من غير ملل ولا كلل، وكلما عاود الإنسان عملا ونجح فيه جاء إليه عيد يستريح فيه، ثم يعاود القيام بواجبه للإنتاج والإثمار، والنفع والانتفاع وهكذا دواليك. وربما كان العمل الذي يكرره الإنسان ويحاوله عسيرا وشاقا في أول أمره، لكنه بالصبر عليه و التطلع إلى غده المأمون يسْهل ويلِين بين يديه كانت معاودته هذه مصحوبة بالإيمان والثقة  في الله والاعتماد عليه والاستمداد منه، فالإسلام يعلمنا أن لا حول ولا قوة إلا بالله. وفي الحديث " اللهمبكأصولوبكأجول".

فإذا أقبل علينا العيد حسن بنا أن نلقاه ونفرح به ونهيئ لغيرنا أن يشاركنا فرحته ، لكننا بعد هذا يجب أن نعود إلى حسن المحاولة مع عمق الرجاء وقوة الأمل، وحينئذ يعود علينا العيد مرة بعد مرة فيجد أمة مسلمة عاملة مكافحة مناضلة تتعاون على البر و التقوى، يعود فيجد أمة يتشارك أبناؤها في الخير و النعمة ويتساندون في البأساء و الشدة، ليجد أمة بارة بوطنها مخلصة لثوابتها غيورة على دينها ، أمة تدين بالإسلام لا تبغي به بديلا ونذرت نفسها لخدمته وحراسته، وجعلت في التضحية في سبيله التاج الذي تفاخر به، فهي بهذا الدين عزيزة الجانب، قوية الشوكة، متماسكة الأجزاء يأبى لها الله أن تتفرق وإن كثرت فيها نعرات التفرق ويأبى لها دينها،

- وهو دين التوحيد - إلا أن تكون موحدة متماسكة.

وإن التاريخ ليشهد لهذا الدين في عنفوان شبابه، وتهيؤ أسبابه أن أتباعه وأشياعه ما كانوا أساتذة الكون إلا بهديه، ولا دانت لهم المشارق والمغارب إلا تحت سلطانه وما لمَسوا برد السعادة إلا في كنفه وأحضانه. وإن التاريخ لم يعرف دينا من الأديان لم يبق على طبقات الجنسية ولم يُبنَ على قواعدها إلا دين الإسلام فهو لا يختص بجنس وهو موافق لكل فطرة وملائم لكل نفس. وقد اندفع في سيره الأول إلى جهات المعمورة الأربع ، وانتظم أمم مختلفة الأجناس واللغات والطبائع والألوان فأصبحت تلك الأمم على ما بينها من تباين وتنافر أمة واحدة مطبوعة بطابع واحد هو طابع الإسلام ومصبوغة بصبغة الدين الإسلامي.

السرّ في ذلك، أنه دين الفطرة يحمل في طياته نهاية الكمال الإنساني، وسقف الذوق الحضاري وأن أصوله بنيت على حكمة من خالق الحكمة، فنجد في عقائده غذاء العقل، وفي عباداته تزكية النفس، وفي أحكامه رعاية المصلحة، وفي آدابه خير مجتمع فكان طبيعيا أن تنتظم تحت رايته المجتمعات التي عرض عليها راغبة لا راهبة، طائعة غير مكرهة.

وكان الجزائريون أعلق الناس بهذا الدين وأشدهم به تمسكا، وأكثرهم عليه غيرة وله وفاء. ومن أجلى صور هذا الوفاء وأوضح مظاهره في تاريخنا الحديث بيان أول نوفمبر الذي اتخذ من الإسلام مرجعيته الأولى.

جاء في البيان: " إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية، إيمانا من قادة جيش التحرير وعامة الشعب الذي يمثلونه أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأن الله قد أعزّنا بالإسلام فإن ابتغينا العزّة في غيره أذلنا الله "فمنكانيريدالعزّةفاللهالعزّةجميعا".

فالدّين الذي كان سبب تقدم وعمران لم يشهد العالم نظيرهما لا يكون سبب تخلف وخراب، وإن الدين الذي كان سبب في الإصلاح لا يكون سبب في الفساد والاضطراب، والإسلام الذي مقصده إسعاد البشر لا يكون أبنائه أشقى الناس به ذلكم أن السبب الواحد لا تنشأ عنه مسببات.

وقد أدرك أسلافنا الأشاوس هذه الحقيقة وتبصروها فظاهروها وناصروها وبذلوا أنفسهم الغالية رخيصة دونها، فما وهنوا وما استكانوا وما ازدادوا على ضعفهم إلا قوة وصلابة، وعلى قلة عددهم إلا تماسكا وصبرا، ولم يورثهم اللغوب إلا عزما ومضاء.

نصروا الله فنصرهم، واختاروا دينه على ما سواه فمكنه لهم وجعلهم خلفاء وفيهم قال تعالى:   " وعداللهالذينآمنوامنكموعملواالصالحاتليستخلفنّهمفيالأرضوليمكننّلهمدينهمالذيارتضىلهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا" الآية.

إن واجب الأمة اليوم نحو من مضى منهم وقضى أو من ينتظر أن نكافئ الجميل منه الجميل، ونقارض الإحسان بالإحسان فنصدق معهم الوعد ونوفي لهم بالعهد ونكمل البناء الذي أسّسوا له وفق التصميم الذي رسموه حتى يأتي البناء عند منتهاه متناسقا مؤتلفا لا متناكرا مختلفا، وتصدر صفحات تاريخنا لمن يقرؤها متناسقة الأطوار منسجمة المراحل ببشر أولها بآخرها ويصدق آخرها أولها. ولقد تحدث القرآن الكريم عن فضيلة الوفاء في مواطن كثيرة، ولعل أشرف مكانة الوفاء هي أن يصف الله تبارك وتعالى ذاته العلية بالوفاء فيقول عز من قائل في سورة التوبة " إناللهاشترىمنالمؤمنينأنفسهموأموالهم بأنّ لهم الجنة...ومنأوفىبعهدهمناللهفاستبشرواببيعكمالذيبايعتمبهوذلكهوالفوزالعظيم" ومعنى " ومنأوفىبعهدهمنالله" أنه لا أحد أصدق في إنجاز وعهده من الله سبحانه، فهو أصدق الواعدين وأوفى المعاهدين ويحدثنا القرآن الكريم أن الوفاء صفة المؤمنين الأخيار الأبرار فقال في سورة آل عمران " بلىمنأوفىبعهدهواتقىفإناللهيحبالمتقين".

والوفاءأنواع:

فهناك الوفاء بالعهد الذي يقول فيه الله تعالي: " والموفونبعهدهمإذاعاهدوا"

والوفاء بالوعد الذي أشار إليه القرآن الكريم: " إنهكانصادقالوعد"

والوفاء بالنذر " يوفونبالنذرويخافونيومكانشرهمستطيرا"

والوفاء في الكيل قال تعالى: "وأوفواالكيلولاتكونوامنالمخسرين"

والوفاء بالعقود قال تعالى: " ياأيهاالذينآمنواأوفوابالعقود ".

 

لكن أعلى هذه العقود وأجدرها بالرعاية هو عهد الله جلا جلاله الذي يقطعه الإنسان على نفسه ملتزما فيه أمرا مع ربه قال تعالى : " الذينيوفونبعهداللهولاينقضونالميثاق" وقال تعالى " وبعهداللهأوفوا" وقال أيضا " وأوفوابالعهدإنالعهدكانمسؤولا" وقد قال  صلى الله عليه وسلم مجيبا عن استفسار الرجل القائل: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا (أي علاقات ومعاملات) وإنّا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " بل الدم بالدم والهدم بالهدم أنامنكم وأنتممني أحارب من حاربتموأسالم من سالمتم" وعن أنس رضي الله عنه قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال:" أفيكم أحد من غيركم" فقالوا: لا إلا ابن أخت لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ابن أخت القوم منهم" فقال: "إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة. وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم. أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم؟ لوسلكالناسوادياوسلكالأنصارشعبالسلكتشعبالأنصار" وقد بلي الإسلام وبليت أمته مذ ضرب الاستعمار أطنابه ببلدنا بسماسرة يروجون لنبذ هذه العهود ونكثها وقطع حبال الصلة بها فهذا الفريق المزور على الإسلام ، الذي لا صلة له به إلا بما لا كسب له فيه كاسمه ولقبه يرى أنه لا ازدهار للمسلمين إلا بالانسلاخ عن تاريخهم ودينهم والركض وراء حضارة تجتثهم من أصولهم ولا تلحقهم بأصولها فتصدق فينا السنة الكونية المقررة في سقوط الأمم وعدم امتداد العزة والرقي فيها أن ينسى آخرها مآثر أولها فينقطع التيار الدافع فيتعطل التقدم، ولأجل هذا حمل القرآن الكريم حملة راضعة على الخيانة والغدر قال تعالى: " ياأيهاالذينآمنوالاتخونوااللهوالرسولوتخونواأمانتكموأنتمتعلمون" وقال صلى الله عليه وسلم " لادينلمنعهدله" فنجاحنا منوط بمدى وفاءنا لديننا وغيرتنا على تراثنا، فكلما ازددنا منهما قربا زدنا بهما قوة وعزة وتقدما، وكلما بعدنا عنهما شردنا عن الجادة وعدلنا عن القصد وانطمست في طريقنا المعالم فخبطنا خبطة عشواء نلتمس الدواء من أسباب الداء، ونطلب النجاح من دواعي الهلاك، نسأل الله أن يفتح أبصارنا وبصائرنا لرؤية الحق ويوفقنا لاتباعه.

وقد أظهرت لنا الأيام يوم أدرنا للثوابت ظهر المجن كيف عصفت بنا الأعاصير وأحاط بنا الموج من كل مكان وبات الغرق محققا حتى قيض الله السفينة المتداعية المشرفة ربانا ألمعيا سدد وجهتها وأحكم قيادتها وصحح مسارها وفق خريطة تاريخ الأمة وثوابتها، فسكن حينئذ الموج وهدأت الريح، وانقادت السفينة بالحكمة والفطنة إلى بر الأمان فنجت ونجا من فيها وما كادوا.

فالعهد الذي نقطعه على أنفسنا بعد أن أذن الله بالفرج ومنّ باليسر بعد العسر أن لا نبدل نعمة الله كفرا وأن يكون الوفاء بالعهد للصحابة الكرام الذين بلّغوا لنا هذا الدّين الشهداء الأبرار الذين خلّصوا هذا البلد من رجز الاستعمار الأثيم. الميراث الذي نتوارثه جيلا بعد جيل كابرا عن كابر وماجدا عن ماجد حتى نبلغ الغاية ونوافي الغرض ويوم إذن يفرح المؤمنين بنصر الله.  

 

الخطبةالثانية:

أيها المؤمنون قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : " للصائمفرحتانفرحةيومفطره،وفرحةيوملقاءربه" وها نحن أولاء اليوم نستقبل فرحة الإفطار بنفوس تطفح بالبشر ووجوه تنضح بالسرور، وبقي بعدها فرحة يوم اللقاء بقيت الفرحة الكبرى يوم الجزاء، وإننا لنتمنى على الله الكريم المنان أن يتقبل منا صيامنا ويتم لنا نورنا وفرحتنا، يوم يُنادى على الصائمين في عُرُصَات يوم القيامة أدخلوا الجنة من باب الريان لا حرمنا الله من معيتهم فلنحسن الاستعداد ليوم اللقاء بالهدى والتقى والعمل الصالح حتى نفرح يوم نشهد نور الخالق الوهاب.

توجيه الناس إلى التصافح والتسامح، والعبادة معلّقة حتى يتسامح مع أخيه. بصغة الأمر .

بقلم  الأستاذ: طارق طهير

الصنف