الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيز الحميد، المحصـي المبدئ المعيـد، علام الغيوب فعال لما يـريـد، خلق الخلـق وبعثالرسل، وأنزل الشرائع وحد الحدود ليبتلي عبيده، أيُّهم ينقاد لأمره ويخضع لسلطانه، وأيهم يتبع كل شيطان مريد، فسبحانه ما أعظم شأنه وما أحكم أمره وما أعدل شرعـته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، اتصف بكل وصف حميد، شهادة ندخرها ليوم الوعيد، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه الله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، رسولا للمرحمة ونبيا للملحمة، رحيما بعباد الله المؤمنين، وشديدا على كل جبار عتو عنيد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وزوجه ومن اقتفى أثره واستن بسنته وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الفصل بين الخلائق بالحق، فمنهم شقي وسعيد، ألا وإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:
فقد قال الله تعالى في محكم التنزيل: ((فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن
له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى)) [طه: 224]
عباد الله: كنا قد وقفنا في خطبة سابقة على مفهوم السعادة، ورأينا أن أغلبية الناس يحصرونها في تحقيقالمنفعة واللذة، من تحصيل مال أو سلطان أو جاه أو شهرة أو جمال، أو ما إلى ذلك من حطام الدنيا الفاني، ورأينا صنفا آخر من الناس يظن السعادة تعذيبا للنفس سموا بها نحو العلى كما هو زعم النصارى في التبتل والرهبانية. وكنا قد وصلنا إلى نظرة الدين الإسلامي الحنيف للسعادة، فهو لا يلغي ماديات الحياة ولا يقدسها، فهي وسيلة لتحقيق الغاية التي من أجلها خلق الإنسان، ألا وهي العبودية المطلقة لله عز وجل، ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) [الذاريات:56]، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نحرص على ترجمتها لتحقيق السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة.
أمة الإسلام: إن مدار السعادة في الإسلام قائم على أصلين اثنين، وهما العلم والإيمان، هاتان الشجرتانالطيبتان هما ينبوع كل خير وسبب كل انشراح وانبساط وسرور.
أما العلم: فهو الشرف الذي يسعى لرقي سلمه كل إنسان، ويبذل في تحصيله كل نفيس، كيف لا وهو السبيل لتحقيق السعادة النفسية الروحية القلبية، سعادة العلم النافع ثمرته، إذ إنها هي الباقية على تقلب الأحوال،
والمصاحبة للعبد في جميع أسفاره، وفي دوره الثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وبها تُتَرقَّى معارج
الفضل ودرجات الكمال، ويكفي العلماء شرفا أن الله عز وجل امتدحهم في غير ما موضع من كتابه العزيز،
فقد أثنى على نفسه، وثنى بملائكة قدسه، وثلث بأهل العلم قائلا: ((شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو
العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)) [آل عمران:18].
يحكى عن بعض العلماء: أنه ركب مع تجار في مركب، فانكسرت بهم السفينة، فأصبحوا بعد عز الغنى في
ذل الفقر، ووصل العالم إلى البلد، فأكرم وقصد بأنواع التحف والكرامات، فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم قالوا له: هل لك إلى قومك كتاب أو حاجة؟، فقال: نعم، تقولون لهم: إذا اتخذتم مالا لا يغرق إذا انكسرت السفينة،
فاتخذوا العلم تجارة.
وأشرف العلوم التي ينبغي أن يحرص عليها هو القرآن وما يتعلق به من فنون وعلوم، فهو أشرف علم
على الإطلاق، وبه تحصل اللذة والسعادة، وتتحقق السكينة والطمأنينة، قال تعالى: ((والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك...))[الرعد:36]، والفرح بالعلم من أعلى مقامات العارفين، وقال أيضا: ((قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون))[يونس:58]، قال ابن عباس ومجاهد: فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن، وقال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله، ويشهد لهذا أن الله سبحانه ذكر الأمر بالفرح بفضله وبرحمته عقيب قوله: ((يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين))[يونس:57].-يقصد القرآن-.
ومن هنا نجد نصوص الشرع متظافرة على تعلم القرآن وترتيله ومدارسته، وتدبر معانيه والعمل به، قال
تعالى: ((ألا بذكر الله تطمئن القلوب))[الرعد:28]، وقال صلى الله عليه وسلم : (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، فليحرص الإنسان على تعلم القرآن الكريم، وتحصيل كل علم نافع، وليعلم أن طريق العلم شاق وصعب، إذ المكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا في سفينة الجد والاجتهاد، قال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة الجسم، وقد صدق من قال:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
وأما الإيمان: هذه الشجرة الزكية الطيبة الطاهرة التي لا تنبت إلا طيبا عطرا، والبلد الطيب يخرج نباتهبإذن ربه.
إن الإيمان أعظم نعمة وأكرم عطية يكرم بها الله تعالى عبده، فهو النور الذي يشع ضياؤه في القلب، فيورثه وجدا وقربا من الله، وأنسا به ورضاء عنه، ويقذف في الفؤاد لذة وسعادة، قال عنه بعض العارفين: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف، ويقول ثان: إنه لتمُرُّ بي أوقات يرقص فيها طربا، ويقول ثالث: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
إنها بشاشة الإيمان إذا خالطت القلب، ترفع صاحبها إلى مصاف الملائكة الأطهار، وتجعله يفنى عن جميع ملذات الجسد، فلا يخفق قلبه إلا بحب الله ورسوله، والشوق إلى لقاء ربه، والأنس به، وهذا أمر لا يصدق به إلا من ذاقه، فإنما يصدقك من أشرق فيه ما أشرق فيك، ولله در القائل:
أيا صاحبي أما ترى نارهم؟ فقال تريني ما لا أرى
سقـاك الغرام ولم يسقني فأبصرت ما لم أكن مبصرا
وسبيل تحصيل الإيمان الالتزام بشرع الله تعالى ظاهرا وباطنا، والإكثار من العبادات والقربات من ذكروصلاة وصيام وغير ذلك، فلا يخفى أثر العبادة على قلب ابن آدم، قال صلى الله عليه وسلم لبلال: (أرحنا بها)، أي بالصلاة، وقال أيضا: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وقال أيضا: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوةالإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفربعد أن أنقذه الله منه).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الحليم العظيم لي ولكم، ويا فوز المستغفرين، أستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة على النبي المصطفى، ومن بآثاره اقتفى، وبعهد الله وفى، وسلام على عبادهالذين اصطفى، وبعد:
فقد قال تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر اللهكثيرا))[الأحزاب:21].
أمة الإسلام: ولنا القدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الذروة في العبودية لله، والانقيادلشرعه حين عرضت عليه قريش ما عرضت عليه مساومة له على دينه، فرفض إغراءاتهم بشدة ورضي بالسعادة التي كان يعيشها في ظل عبوديته لله وتبليغه لرسالة السماء، تذكر كتب السيرة أن قريشا بعثت إلىأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض على ابن أخيه حطام الدنيا الفاني، قالوا: إنك منا حيثقد علمت من الشرف في العشيرة والمكانة في النسب، وإن محمدا قد أتى قومك بأمر عظيم، فرق جماعتنا،وسب آلهتنا، وسفه أحلامنا، وإنا نعرض عليه أمورا لعله يقبل منها بعضها، فقال أبو طالب: هاتوا ماعندكم، قالوا: إن كان ابن أخيك يريد مالا جعلناه أكثرنا مالا، وإن كان يريد شرفا سودناه علينا حتى لانقطع أمرا دونه، وإن كان يريد ملكا ملكناه علينا، وإن كان يريد نكاحا زوجناه أجمل أبكارنا، وإن كانهذا الذي يأتيه رئيا يراه لا يستطيع رده عن نفسه، طلبنا له الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى يبرأ منه، على أنيترك شتم آلهتنا وتسفيه عاداتنا، ولما عرض أبو طالب على ابن أخيه ما اقترحته قريش قال صلى الله عليه وسلم بلسان الواثق بالله الراضي عن ربه: (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علىأن أترك هذا الأمر ما تركته إلا أن يأذن الله أو أهلك دونه ).
ما أعظمها من كلمات، وما أصدقها من مشاعر، وما أنبلها من أحاسيس، كيف يستبدل رسول اللهصلى الله عليه وسلم الذي هو أدنى بالذي هو خير، كيف يستبدل ملذات الدنيا الحقيرة بالسعادة الحقيقية تحتظل توحيد الله والإيمان به.
وهكذا يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله أنه لا سعادة إلا في طاعة الله عز وجل وامتثال أمرهواجتناب نهيه، قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي)، وقال تعالى: ((من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهمبأحسن ما كانوا يعملون))[النحل:97].
إن سعـادة الدنيا بالعلم والإيمان طريق إلى السعادة الأبدية في البرزخ والآخرة، يوم تبيض وجوه وتسودوجوه، يوم ينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، يوم تطير الصحف ذات اليمين وذات الشمال، فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه فيستبشر خيرا، ومنهم من يمسك كتابه بشماله فسيدعو ويلا وثبورا.
إن غاية المسلم وأسمى أمانيه أن يظفر بالسعادة الأبدية في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحينوحسن أولئك رفيقا، وأن يتنعم بالنظر إلى وجه ربنا الكريم، هذه هي السعادة التي ينبغي أن ننشدها ونبذل فيسبيلها النفس والنفيس، وكل غال ورخيص.
فشمروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وطلقوا الكسل والخمول والرقاد، واعملوا فكل ميسر لما خلق له.
قال تعالى: ((يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد ، فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيهازفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا مـا شاء ربك، إن ربك فعال لما يريد، وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ))[هود:105-108].
عباد الله: إني داع فأمنوا.
من إعداد: الدكتور عماد بن عامر (الجامع الكبير)