في رحاب مولد النبي الأغر
بقلم: الدكتور محمد العربي شايشي
أستاذ بجامعة الجزائر، وعضو اللجنة الوزارية للفتوى
أقبل ربيع الأنوار، وهبّت علينا نفحات ذكرى ميلاد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وتهيجت مشاعر الشوق والحنين إلى رسول الله، لتكون هذه المناسبة منبر حبٍّ واحتفاء وترحيبٍ بنبي الإنسانية، الرحمة المهداة، الذي امتدّ خيره العميم ليشمل الإنسانية جمعاء من غير تمييز، لا بعرق ولا لون ولا لسان، وقد جسّد ربنا تبارك وتعالى هذ المبدأ في كتابه قائلا: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
لنتذاكر نعمة الله على البشرية من إرساله لهذا الرسول المجتبى الذي جاء إلى هذا الكون والعالم يعيش في ظلمة ظلماء، فكان فجرًا باسقًا باسمًا، وأخرج البشرية من ضيق الدنيا ولأوائها إلى سعة الآخرة ورحابتها، وأحيا الله به قلوبًا أميتت، وفِطرا انتُكست، وخلالا هُجرت، فبشّر بعد يأسٍ، وأرشد بعد غيٍّ، ويسَّر بعد عُسرٍ، وأضحت شمس النبوة المحمدية دعوة خالدة مشرقة امتدت أشعتها إلى سائر الآفاق، تتلألأ في كل أرجاء المعمورة.
وامتدت رحمته لأمته ﷺ إلى يوم القيامة، فكل الناس تتبرأ من الخلائق، والكل يقول: "نفسي نفسي"، إلا هذا النبي الكريم يقول: (أمتي أمتي).
بُشرى من الغيبِ ألقت في فمِ الغارِ *** وحْيًا وأفضت إلى الدينا بأسرار
بُشرى النبوة طافت كالشذى سَحَرًا *** وأعلَنَتْ في الرُّبى ميلادَ أنوار
وهَدْهَدَتْ "مكة" الوُسنى أناملَها *** وَهَزَّتِ الفجرَ إيذانًا بإِسفارِ
وقد بلغت أخلاقه مبلغ الحسن والكمال، فكانت أنبل الخلال، وأجمل الخصال، وقد وصف الله خلقه بأنه عظيم،فقال عز من قائل: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وامتدت أخلاقه لتشمل الصغير والكبير، والصبي والعجوز، والذكر والأنثى، والغني والفقير..
وتَنزّل عليه القرآن أصدق كتاب منزّل فتحلّى به، فكانت أقواله وأفعاله وخصاله ترجماناً عملياً، فأضحى بذلك صفوة خلق الله تعالى جميعا، وأتقاهم قلبا، وأنقاهم سريرة، وأصدقهم إيمانا، وقد وصفته أم المؤمنين عائشة الصديقة – رضي الله عنها – بقولها: (كان خلقه القرآن).
إن ذكرى ميلاد سيد الأكوان هي محطة إيمانية لتجديد حبنا لنبينا - صلى الله عليه وسلم - المتجذّر في حنايا صدورنا؛ ليفيض بين جوانحنا عملا ووجدانًا وسلوكا يرضي خالقنا.
إن محبة الرسول – صلى الله عليه وسلم - أصل أصيل من أصول الإيمان، وركن ركين من أركان الإسلام، وهي فرعٌ عن محبة الله تعالى ولازم لها، وفي هذا يقول الله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، وفي الحديث (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). وهي مظهرٌ كوني شمل كل مكونات الكون فلم تقتصر على محبة البشر له فقط، بل أحبه الحجر والشجر والجبل والجمل وسائر المخلوقات.
إن حقيقة محبة النبي الكريم اعتقاد وجداني وحب عاطفي يترجمه سلوكٌ عملي يسلكه المسلم في مختلف أحواله، في السراء والضراء، وفي الرخاء والشدة.. لتجعل منه إنسانا صالحا ينفّذ أوامر الله في الأرض، ويحقق رسالة الكون، ويسهم في بناء الوطن، ويرسي أسس الحضارة ومعالمها.
إن هذه المحبة تتمثل في إجلال شخص النبي صلى الله عليه وسلم في النفس على وجه يدفع المحبّ لمُدارسة سيرته ومناقبه وشمائله والتحلّي بأخلاقه، وكثرة الصلاة عليه، واتباع سنته، والاطّلاع على مآثره، وزيارة مدينته، ليعيش الإنسان تلك اللحظات ويستحضر تلك المحطات كأنه يراها لتُترجم منهج حياة وتكون نبراسا يضيء دربه.
إن الاحتفاء بذكرى ميلاده لمظهرٌ من مظاهر محبته، وهو وفاءٌ وإخلاصٌ وشوقٌ إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - الذي اشتاق للقائنا عندما قال لأصحابه (وددت لو لقيت إخواني).
ومن الواجب علينا أن نستغل هذا الحدث ليكون مناسبة لإحياء مظاهر البهجة والسرور في مجتمعنا، بتذاكر مناقب هذا الرسول المجتبى، وزرع حبّه في نفوس الناشئة، ومدحه بما يليق بمقامه، وإشاعة شمائله وأخلاقه، كالأمانة والجود والكرم والتسامح والتواضع وحسن العشرة..، والتوسيع على الناس والتشجيع على مظاهر التكافل الاجتماعي وفعل الخير، وإشاعة أخلاق التآخي والمودة والتفاؤل وحسن الظن وزرع الأمل، وإقامة المسابقات القرآنية والحديثية وسائر العلوم النافعة...
نسأل الله أن يرزقنا حب نبينا، واتباع سنته، والتحلّي بأخلاقه، وأن يحشرنا في زمرته، وأن يجازي نبينا عنا وعن الإسلام والمسلمين وعن الأمة جمعاء بخير ما يجزى نبي عن أمته.