طلعت علينا صحيفة "البصائر" في عددها رقم 585 بموضوع تعرض فيه كاتبه لتصريح وزير الشؤون الدينية والأوقاف الذي بثته القناة الإذاعية الأولى صباح يوم 22 يناير الماضي، وتحدث فيه عن منع القيام بالحملات الانتخابية في المساجد، وأشار فيه إلى أن الأئمة يعلمون ذلك وليسوا في حاجة إلى من يأمرهم ولا من يوجههم في أمور تتعلق بحماية المساجد والنأي بها عن الصراعات الحزبية
طلعت علينا صحيفة "البصائر" في عددها رقم 585 بموضوع تعرض فيه كاتبه لتصريح وزير الشؤون الدينية والأوقاف الذي بثته القناة الإذاعية الأولى صباح يوم 22 يناير الماضي، وتحدث فيه عن منع القيام بالحملات الانتخابية في المساجد، وأشار فيه إلى أن الأئمة يعلمون ذلك وليسوا في حاجة إلى من يأمرهم ولا من يوجههم في أمور تتعلق بحماية المساجد والنأي بها عن الصراعات الحزبية .
ولما سئل عن موقف الإمام من مبدأ الانتخابات قال الوزير بأن الإمام مواطن قبل أن يكون إماما، وهو مواطن إيجابي، وبما أن الانتخاب واجب وطني فهو أول من يؤدي هذا الواجب ويشجع عليه.
ويبدو أن كاتب المقال وافق على الفكرة الأولى المتعلقة بمنع الحملات الانتخابية في المساجد، ولكنه يعارض الفكرة الثانية وهي كون الإمام ينتخب ويشجع الناس على القيام بهذا الواجب.
ونحن نشكره على قبوله بالفكرة الأولى وهي النأي بالمسجد عن الصراعات الحزبية، وما ذلك إلا لأن المسجد هو بيت جميع الجزائريين وهو يضمهم مجتمعين، وينأى عنهم متفرقين لأن الصراع الحزبي هو صراع على المصالح، ويهدف مثل التجارة إلى الربح ودفع الخسارة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مباشرة التجارة في المساجد.
ولكن عندما تناول كاتب المقال الشطر الثاني من التصريح وقع في متاهات لا حصر لها.فهو لم يتثبت من اسم الوزير الذي يتعرض لتصريحاته فكتبه محرفا، ولم يتثبت من المقولات التي يعترض عليها فناقش خارج محل النزاع، وفيما يلي عينات من ذلك:
يقول كاتب المقال عن الوزير إنه "أباح للسلطة ما حرمه على الأحزاب" ثم حكم على الوزير في أمر قد لا يفعله أبدا فقال: "لا يستبعد أن يوجه تعليمة لأئمة المساجد يطالبهم فيها بإلقاء خطب تدعو المصلين إلى التصويت بكثافة" وهذا حكم على الغيب؛ وبعد أن نسب إليه قوله: "دور الإمام يكمن في توعية المواطنين وتوجيههم إلى مكاتب الاقتراع لأداء واجبهم الانتخابي" علق قائلا: "أضفى الشرعية الدينية على هذا التصرف... وكان الوزير كمن ينهى عن منكر ويأتي بمثله أو بما هو أعظم منه"
واستخلص الكاتب بأن الوزير: "يرى أن الدعاية الانتخابية محظورة على الأحزاب مباحة للسلطة ...الخ" ثم اتهم الوزير بالتعسف وبالتلاعب بالكلمات...
ويبدو لأول وهلة أن كاتب المقال يحمل ضرسا ضد السلطة، فإذا كانت السلطة هي الدولة، فهو إذن لا يحب الدولة الجزائرية ولا يثق قي الانتخابات التي تنظمها وتشرف عليها.
وإني كما أحترم رأي كاتب المقال أود أن أعبر أنا كذلك عن رأيي كمواطن ينتمي إلى هذا البلد الطيب الذي هو الجزائر.
وأول ما أشير إليه هو أن كاتب المقال الفاضل يرتكب أغلوطة الحد الرابع فهو يساوي بين أصل الانتخاب وبين كون المواطن ينتخب لحزب معين . وهذا قياس مع وجود الفارق ، لأن مثلك عندما تنصحني بأداء واجبي الانتخابي كمثلك عندما تنصحني باقتناء ملابسي من صنع بلادي، ولكن عندما تشير علي بانتخاب مترشح معين دون غيره فكأنك تشير علي باقتناء ملابسي من هذا التاجر دون غيره ، إنك في الحالة الأولى تنصحني أما في الحالة الثانية فإنك تصادر اختياري ، وشتان بين الحالتين .
أنا لا أريد أن أدافع هنا عن السلطة التي يتهمها " الأستاذ" لأن لها وسائلها التي تحدث عنها في مقاله، وإنما أريد أن أسأل نفسي كمواطن يحس بمسؤوليته في المجتمع الذي ينتمي إليه، ماذا يجب أن أفعل لأغير الوضع الذي أرفضه؟
أتطلع إلى ما يجري في البلاد المتطورة فألاحظ أن التغيير والتداول على سدة الحكم فيها يتم عن طريق الانتخاب، لقد كان شعار الحملة الانتخابة لرئيس الولايات المتحدة الحالي هو "التغيير" وأوحى للمجتمع الأمريكي أنه إذا انتخبه سوف يغير، وهو مقبل الآن على طلب عهدة ثانية وفق ما يسمح به دستور بلاده.
ومثل ذلك يجري في الديمقراطيات الأوروبية، ولم تكن النسبة الضئيلة من المشاركين في الانتخابات تخيف أحدا ولا تغير شيئا في الموضوع فقليلا ما بلغت ثلث المسجلين أو الفئة التي تملك حق الانتخاب.
ثم أتطلع إلى ما يجري حولنا في البلاد التي يشبه وضعها ما عندنا. فأجد أسلوب الانتحار والتجمعات الجماهيرية في الميادين العامة مع ما يتبع ذلك من مشادات وتحطيم المنجزات الحضارية، مع استجداء الغذاء والماء والدواء من الدول الأجنبية وأحيانا التضرع إلى القوى الاستعمارية للتدخل بطائراتها وأسلحتها الفتاكة لإحداث التغيير المطلوب . وماذا بعد التغيير الذي أحدثته القوى الأجنبية بأسلحتها ومخابراتها؟ ماذا حصل بعد الثورة من تحطيم وقتل واستجداء بالعدو؟ ماذا حدث؟ أليست كلها وعود بتنظيم انتخابات توصف بأنها صادقة وشفافة؟ فإذا كان طريق الانتخاب لازما سواء حصل التغيير بالعنف والثورة أو حصل بالمظاهرات فاختصار الطريق واقتصاد الأرواح والطاقات وتجنب التذلل للأجانب وأعداء الأمس تصرف جدير بأن يسلكه العقلاء.
يشكك الكاتب في صدق انتخابات 2007 وانتخابات 1995، ولعه ولد بعد 1991 لأنه لم يشر إلى التزوير العلني الذي صاحب انتخابات 1991 التي سخرت لها المساجد والمدارس والجامعات وكانت نسبة التصويت فيها تتجاوز 99 % ولا أشير للانتخابات التي جرت قبل ذلك عندما كانت الدولة يسيرها حزب واحد.
ماذا يحدث لو توجه 15 مليون من عمار المساجد إلى صناديق الاقتراع لينتخبوا من يمثلهم ويحكم بلادهم باسمهم هل يبقى مجال لمن يريد التزوير؟
يؤكد الأستاذ المحترم أنه قد " ترسخت لديه قناعة بأن اللعبة السياسية والانتخابية مغلقة وأن الانتخابات لم تغير من الواقع شيئا".
كيف حصل على هذه القناعة؟ هل قام ببحث منهجي علمي تناول فيه بالتحليل والإحصاء والمقارنة ملفات من أرشيف الانتخابات أو حصلت له قناعة فقط بالاستماع إلى أقوال الناس، وبخاصة منهم الذين خيبتهم الانتخابات؟ وما أكثرهم !
وإلى أن يقدم لنا – نحن المواطنين البسطاء – الأستاذ المحترم الطريق التي توصل بها إلى الاقتناع بعدم صلاحية الانتخابات، وبأن السلطة التي تفرزها الانتخابات سلطة معتدية ومزورة...في انتظار ذلك أجد نفسي كمواطن يريد التغيير مضطرا إلى اختيار طريق الانتخاب بهدف الوصول إلى نسبة تقل أو تكثر من الديمقراطية ومشاركة المواطنين في تعيين من يصرف شؤونهم.
لعل كاتب المقال لا يدري أن انتخابات 1995 التي يتهمها هي التي وضعت حدا فاصلا بين سلطة الإرهاب المتسمة بالرعب والفوضى والدمار وبين إمكان التوصل إلى بناء دولة ديمقراطية يعتمد في بنائها على الانتخابات الدورية، لقد كان قبل تلك الانتخابات حزب واحد فقط يشكل البرلمان والحكومة معا، وبفضل التغيير الذي حدث بعدها أصبح البرلمان ،يعد أكثر من عشرين حزبا والحكومة تتشكل من ثلاثة أحزاب.
لقد عرفت بلادي بعد 1995 نوعا من الاستقرار، غير المرضي عنه طبعا لأنه غير كاف، ولكنه رغم ذلك وجد خلاله كل طفل مقعدا في المدرسة، ووجد فيه كل شاب مقعدا في الثانويات وفي الجامعات دون دفع رسوم، بل توفرت له منحة تمكنه من مواصلة الدراسة ، وغرفة في الحي الجامعي ليتخرج بعد ذلك أستاذا أو دكتورا يقر بفضل دولته أو يسبها وعرفت بلادي طرقا سريعة من أقصاها إلى أقصاها تعبُرها مئات الآلاف من السيارات التي يملكها المواطنون ،كما عرفت بلادي مستشفيات ومصحات في الأحياء وفي القرى التي تتدفأ بالغاز السائل، وعرفت الجزائر في هذه الفترة بفضل الانتخابات أكثر من مليوني سكن مازال المواطنون يتنافسون ويتعاركون عليها كل يوم وليلة ليفوز كل مواطن بسكن واحد أو أكثر.
وعرفت الساحة الجزائرية عددا لا يحصى من الصحف السيارة تغرف من المال العام وتنادي بإزالة السلطة التي وفرت لها تلك الأموال... وحصل المواطن على منافع كثيرة يتعذر حصرها . وأعتقد كمواطن يحس بمسؤوليته ويريد أن يقدم شيئا لوطنه، ولا يكتفي بسبها والإنكار عليها. ولعل أقل ما هو مطلوب مني لأعبر عن وجودي كمواطن هو أن لا أترك صوتي يوم الانتخاب يسرقه مني من يريد تغييبي ليصعد على صوتي. إني اعتبر نفسي مواطنا إيجابيا مسؤولا وارفض أن أكون هامشيا أو سلبيا، وهذه نصيحة أتقاسمها مع كل مواطن يقاسمني هذا الإحساس النبيل.
د. بوعبد الله غلام الله