الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيز الحكيم.. ناصر المستضعفين ومذل الجبابرة الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وعد عباده المؤمنين بالنصر والتمكين فقال سبحانه: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وتجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض... (القصص:5،6)، وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله إمام المجاهدين ورحمة للناس أجمعين، اللهم صلي عليه وعلى أله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهنيئا لكم أيها المؤمنون جميعا بذكرى الخامس من جويلية الذي تلتم فيه منة جليلة ونعمة كبيرة ألا وهي الحرية والاستقلال، وتشدّنا الذكرى لنشهد ذلك اليوم الذي تقرر فيه الاحتفال بهذه المناسبة العزيزة بعدما تحمل شعبنا كلّ ألوان العذاب والنكال في سبيل تحرير البلاد والعباد من براثن الاستعمار الفرنسي البغيض، فكان شعبنا سدا منيعا أمام كل تحديات المستعمر الذي انتهج سياسة التغريب لمحو الشخصية الجزائرية وطمس معالمها، ولكن استفتحوا وخاب كل جبار عنيد (إبراهيم 15).
أيها المؤمنون:
يسأل السائل ويقول: لماذا نتخذ هذه الذكريات والأعياد؟ والجواب: لا اشك أنكم تعرفون جميعا هذه الذكريات قد تكون للترفيه عن النفوس... وقد تكون للتذكير بحادث محبب إلى النفوس ومحفز للهمم.. وقد تكون لإظهار الفرح بنعمة أصابت البلاد والعباد.. كيوم الخامس من شهر جويلية 1962.. الذي نلنا فيه نعمة الحرية والنعتاق.. ذلك اليوم الذي تحقق فيه حلم شعبنا، وقد صدق الشيخ عبد الحميد بن باديس وتحققت فراسته حينما قال :
وإذا هلكت فصيحتي تحيا الجزائر والعرب
أيها المؤمنون:
إن الأمم الناهضة لا تعرف في تاريخها أعز ولا أعظم من يومها الذي نالت فيه حقها وكرامتها.. ونالت فيه نعمة من نعم الله وكان من واجبها أن تذكر وأن تشكر نعمة المنعم جل جلاله: ((يا أبها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون)) (المائدة:11).
- إنه بحق يوم التخرج والنجاح... يوم فاز فيه المخلصون والمجاهدون في التضحية والفداء لينالوا من الله عز وجل مثوبة البذل والعطاء، ألا وهي الرضا في الدنيا والجنة في الآخرة بإذن الله جل وعلا.
أيها المؤمنون:
إن ذكرى الاستقلال تذكرنا بأيام التضحيات الجسام والإيثار التام، تذكرنا برجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. وتذكرنا أيضا بأن هذه الثمرة الطيبة: ثمرة الحرية- لم تأت على سبيل الصدفة والأماني الكاذبة... وإنما جاءت عن طريق رجال آمنوا بالله ثم آمنوا بضرورة تحرير الأرض وتطهيرها من آثار الذل والاستعباد.
فهبوا جميعا رافعين راية الجهاد والتحرير معتقدين في قرارة أنفسهم أنه هو البلسم الشافي والحل الكافي، مما أرغم المستعمر في النهاية أن يعترف بحق تقرير المصير... لكنه بعدما دمر وخرب وأزهق عددا فظيعا من الأرواح خلال سبعة سنوات عجاف يكاد العقل يتفطر لضخامة عدد الشهداء والضحايا فيها.
أبها المؤمنون:
إننا لنجد في هذا اليوم لذة القيام بالواجب نحو الوطن الذي رفرفت على رباه كلمة التوحيد، ولنفرح بهذا اليوم لأنه اليوم الذي مُنحنَا فيه نعمة من نعم الله: ألا وهي النصر والتمكين.
لقد ترك كل واحد من أبناء هذا الوطن إبان ثورة الجهاد والتحرير أهله وماله وذويه باسم الله ثم لتحرير هذا الوطن وإعزازه... حتى صار هذا اليوم منبع خير للوحدة والتآخي والتناصر...
أيها المؤمنون:
إن يوما تنتهي فيه رحلة الجهاد والاستشهاد وتبدأ فيه رحلة البناء والتشييد لجدير أن يكون يوم شكر وحمد لله تعالى: قال تعالى : ((فأذكروني أذكركم، واشكروا لي ولا تكفرون)) (البقرة: 152).
إذن أيها المؤمنون:
من حقنا أن نفرح لنطبق كل ما تعلمناه في جهادنا من تراحم وتآزر ووحدة وأخوة وشكر النعمة... وشأن المؤمنين الصادقين هو الاتصال بالله بالعبادة والشكر والاتصال فيما بينهم عن طريق المحبة والإخاء والعطف والمودة.
إخواني:
سوف تظل هذه الذكرى الخالدة مدى الأيام لتقول للدنيا: إن الباطل مهما طال أمده وقويت شوكتهُ ... فلابد من اليوم الذي يخر فيها صريعا أمام روعة الحق وقوة الإيمان. ((كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزَّبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض...)) (الرعد:17). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، واستغفروا الله العظيم الجليل لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلى على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وبعد:
تخيلوا معي أيها المؤمنون أن إنسانا في حفل تخرجه، في يوم نال جائزته من ربه... لم لا؟ وقد أمر بالبذل ففعل... وأمر بالتضحية فقدم، فهل بعد هذا الفضل يتخلى عن هذه المنزلة والتكريم؟ هل يرضى أحدنا أن يجرد مما حصل عليه ويبعد عن فضل الله ورحمته؟ وهل يليق أن يصبح من المغضوب عليهم بعد أن أنعم الله عليه بالحرية والكرامة؟
عباد الله:
إن من ذاق عرف.. ومن ضل الطريق بعد وانحرف.. ونُذكر أنفسنا بحقيقة النجاح، نقول : إن النجاح الحقيقي ليس في الحصول على الثمرة وبلوغ المرتبة فقط، إنما النجاح الحقيقي يكمن في كيفية المحافظة عليه والاستمرار فيه فاحرصوا أيها المؤمنون على ما نِلتم وتمسكوا بما ظفرتم و أسألوا الله من فضله ودوام كرمه.
وأخيرا عباد الله.. إن الفرحة الحقيقية والسعادة الغامرة هي: عندما نرى الأمة العربية والإسلامية قد توحدت وجمعت شملها وانتصرت على عدوها ونرى أرض الإسراء والمعراج وكل أرض اغتصبت محررة: الآية: ((ويومئذ يفرح المومنون بنصر الله ينصر من يشآء وهو العزيز الرحيم)) (الروم:4،5).
بقلم الإمام: فرحــات هـوام