شهر الله المحرم بين التعظيم والشكر

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين وجعلنا مسلمين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر أن نعبده مخلصين له الدين حنفاء ونقيم الصلاة ونوتي الزكاة.  ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وكل من سار سيرهم ونهج نهجهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله:

      لقد حل علينا عام هجري جديد، نسأل الله تعالى أن يرزقنا فيه الهدى والتقى والعفاف والرضا والغنى، وأن يكون عام خير ورشد علينا وعلى جميع أفراد الأمة.

والعام الهجري الجديد كما هو معلوم يبدأ بالشهر المحرم؛ وهو أحد الأشهر الحرم التي جاء ذكرها وتعظيمها في القرآن الكريم على سبيل الإجمال في قوله تعالى:((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)). وقد فصّل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإجمال ، وبيَّن أن الأشهر الحرم هي: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، قال صلى الله عليه وسلم : (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضَر الذي بين جمادى وشعبان).وقد نقل ابن كثير في تفسير قوله تعالى ( فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) عن قتادة قوله: "إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا ، من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء .

أيها الإخوة:

     إن شهر الله المحرم لا يكون تعظيمه فقط بالاحتراز من الوقوع في المعاصي والمخالفات، وإنما يكون كذلك بعمل شيء من الطاعات فيه زيادة على الفرائض والواجبات ، وقد تعين الصوم فيه كقربة يتقرب به العبد إلى ربه عز وجل . ولهذا عدّ الصوم في هذا الشهر من أفضل الصيام بعد رمضان كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ". صحيح مسلم.

ولا يخف عليكم يا عباد الله ما في عبادة الصيام من فضل،فقد جاء في الصحيح عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إَِلا بَاعَدَ اللَّهُ، بِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا.  صحيح مسلم.

كما لا ننس يا عباد الله أن يوم عاشوراء هو أحد الأيام المشهودة من هذا الشهر،وقد سن لنا عليه الصلاة والسلام صيامه وأخبرنا بأنه يكفر السنة الماضية،قال  صلى الله عليه وسلم : " صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ " رواه مسلم.

لقد كان يوم عاشوراء يوما عظيما ،لأنه اليوم الذي أهلك الله فيه فرعون وجنوده ونجى فيه سبحانه وتعالى نبيه موسى عليه السلام وقومه. ونظرا لمكانة هذا اليوم عند الله فقد أوحى لنبيه بأن يعظمه فهو صلى الله عليه وسلم وأمته الأحق بموسى في التذكير بهذا اليوم بدلا من اليهود الذين خانوا العهود وبدلوا المواثيق، ولهذا صامه صلى الله عليه وسلم وأمر أمته بصيامه كما جاء عن ابن عباس رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى قَالَ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ" البخاري.

ولما كانت أمة الإسلام متميزة في دينها وعبادتها على سائر الأمم عزم عليه الصلاة والسلام على مخالفة أهل الملل في تعظيم عاشوراء ولو بزيادة يوم قبلها، ولكن َلم يأْت العام الْمقبِل، حتَّىٰ تُوُفِّيَ رسولُ اللّهِ  كما جاء في حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما حين قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن يوم عاشوراء يوم تعظمه اليهود والنصارى قال : " فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع " وفي رواية " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع "أخرجه مسلم.

معاشر المسلمين:

فكما ذكّرنا صوم رمضان بنزول القرآن في إحدى لياليه،فإن صوم شهر المحرم أو بعض أيامه يذكرنا بمعجزة عظيمة وهي هلاك فرعون الذي قال للناس ذات مرة (ما علمت لكم من إله غيري)،ففرعون ذي الأوتاد والذي طغى في البلاد فأكثر فيها الفساد ما عاد يتأله ويطغى بعد هذا اليوم-أي اليوم العاشر من محرم-،  لقد  صبّ الله عليه سوط عذاب،وجعل من هذا العذاب آية للناس،ليتبين لهم أن الله تعالى بالمرصاد لكل من تسول له نفسه افتراء الكذب على الله على أنبياءه عليهم السلام،وليعلم في الأخير أن مصيره سيكون في الأذلين،وأن كل من يعادي أولياء الله من المؤمنين وعباده الصالحين سيكون مآله المحاربة من قبل الله كما جاء في الحديث (من عادى لي ولي فقد آذنته بالحرب).أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه تجدوه غفورا رحيما ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الخطبة الثانية:

         الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على سيدنا المصطفى وعلى آله وأصحابه من أهل الإخلاص والوفاء، وبعد:

        لقد علمتم يا عباد الله كيف أن  الله عز وجل أغرق عدوّه في اليم ،ونجَّى كليمه موسى عليه السلام،وصار بعد ذلك  موسى يصوم هذا اليوم شكرا لله وبقي أتباعه كذلك يصومونه إلى أن لحق بهم نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام فصامه هو كذلك شكرا لله وتعظيما له وأمر أمته بصيامه.وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لنا: أحسنوا للذي أحسن إليكم وآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات واشكروه على هذه النعم ، (وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان).

عباد الله:

فنحن مطالبون بالإحسان إلى الله أولا لما أسبغ علينا من نعم ظاهرة وباطنه،وعليه يتحتم  علينا فعل المزيد من الطاعات.كما يجب علينا أن نحسن لجميع مخلوقات الله وعلى رأسها أخينا وبني جلدتنا الإنسان ،وأن الأولى بالإحسان من بني الإنسان هو المسلم ذي الحاجة فمن كان في عون أخيه كان الله في عونه،وهكذا نكون قد شكرنا الله تبارك وتعالى،فكيف وقد افترض الله علينا إخراج الصدقات وتقديم المساعدات أفلا نطيع ربنا جل وعلا وقد أمرنا بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم،قال تعالى: (و أطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) آل عمران الأية 132.والزكاة كما هو معلوم ركن أساسي من أركان الإسلام الخمس مثلها مثل الصلاة والصوم والحج،وهذه الزكاة من أخرجها طائعا لله وراضيا بحكمه فقد أدى حقها وستعود على نفسه بالطهر والصفاء والنقاء،وعلى ماله بالنماء والبركة كما أخبر القرآن في قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلواتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).التوبة الأية 103.

أيها الإخوة :

لقد اعتاد الكثير منّا إخراج أموال زكاته في شهر الله المحرّم ، وفي مناسبة عاشوراء ذاتها حتى صاروا يسمونها "العشور" اشتقاقا من هذه المناسبة.

وقد كانت هذه الأموال في الماضي تخرج بطريقة عشوائية، حتى يعسر في كثير من الأحيان على المزكين إيجاد من يستحق هذه الزكاة ليعطونه إياها، أما اليوم أيها الإخوة الأعزاء: فإن كل ما يعيق آداء هذه الشعيرة قد زال؛ فصندوق الزكاة قد تكفل بهذا الأمر، فهو مؤسسة المواطنين يديرونها بأيديهم، ويأخذ منهم ويعطي لهم، وبهذا  فهي ترفع الحرج والمشقة عليكم وتضمن وصول أموالكم إلى أهلها، ونكون بهذا قد أحيينا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تحصيل الزكاة وصرفها في مصارفها المنصوص عليها في القرآن في قوله تعالى:(إِنَّمَا ألصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)  سورة التوبة /الآية 60.

واعلموا عباد الله أن وراء هذا الصندوق رجال من العلماء والكرماء ينشطون ويسهرون على حسن تسييره وإدارته، وهم ،يعملون لحد الساعة لوجه الله وينتظمون في شكل لجان قاعدية وهي العمدة والأساس، وأخرى ولائية مهمتها الإشراف والمتابعة، وهناك اللجنة الوطنية في أعلى المستوى التنظيمي، وقد وضعت الوصاية حسابا بريديا خاصا لكل صندوق ولائي، كما أن للصندوق الوطني حسابا بريديا خاصا به. ولا شك أن هذه الإجراءات التنظيمية تضفي على المشروع الشفافية وتزيد من طمأنة المواطنين سواء أكانوا مزكين أم محتاجين أو غيرهما،لأن الثقة تبعث على الراحة والاطمئنان كما أشار القرآن الكريم في الحوار الذي دار بين الله تبارك وتعالى وخليله إبراهيم عليه السلام :(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)البقرة الآية 260. فهذا التنظيم - بلا شك - سيعطي الصندوق المزيد من النتائج بعد التي كانت عليه في السنوات الماضية، وستفرحون إنشاء الله بهذا الإنجاز ولو بعد حين.

عباد الله :

     نصيحتي إليكم في الأخير ونحن في هذا الشهر العظيم: أن نتعاون جميعا من أجل إنجاح المبادرات الخيرة وهي لا شك أنها من أعمال البر والتقوى، وأن نكون دائما وأبدا كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تواد وتعاطف وتراحم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وقدموا لأنفسكم في هذه الحياة قبل مجيء المماة، واعلموا أن ما تقدموه من خير تجدونه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.

أعاننا الله على ما فيه الخير والصلاح  وبارك الله في سعيكم وعطائكم، وحفظكم  ورعاكم ، وجعل الجنة متقلبكم ومثواكم.

 

                                                                              من إعداد الأستاذ: عبد الحفيظ حمزة –  إمام بولاية الطارف