الإسلام وحماية الطفولة

 

الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الانسان بقدرته، وأنشأه في الأرحام بحكمته،ورعاه – في ظلمات ثلاث- بلطفه وعنايته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أكمل لنا دينه، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام صراطه"اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم
نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"سبحانه هيأ للإنسان الحياة، وأمره فيها بالطاعات، ليجزيه بالحسنات، ويرفعه في الدرجات، إلى أعالي الجنات.

واشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صفيه وحبيبه، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره واتبع هداه، وسار على خطاه، إلى يوم الدين.

أما بعد، معاشر المسلمين: إذا علمنا بأن المرء يُثابُ بالأجر والحسنات، على ما يقوم به من الطاعات، وما يفعله من الخيرات؛ فإن القيام بشؤون الطفولة من خلال الكفالة اللازمة، والرعاية الدائمة، عمل جليل يُعَدُّ من أفضل الصدقات الجارية..

أجل! فإن الأولاد عطية ربانية، ومنحة إلهية تستوجب الشكر" وإن تشكروا يرضه لكم"([1]) وشكرها رعاية الطفل بتلبية حاجاته النفسية والحسية في مختلف الجوانب، لينمو نموا طبيعيا، متكاملا، يحافظ على توازن شخصيته؛ ليكون بذلك امتداداً سليما لأسرته، ومفخرة عظيمة لأمته، لنستمع إلى آية من آيات القران الباهرة، الناطقة بمعجزة من معجزات القرآن الظاهرة، قال تعالى:" والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين    وحفدة "...من الذي جعل لنا من أزواجنا بنين وحفدة ؟ "هو الرحمن الرحيم"([2]). فالطفولة هي البشرى  التي تلقاها خليل الله سيدنا إبراهيم عليه السلام إذ دعا ربه:"رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم"([3])   وفي آية أخرى :".. وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآءِ اسحاق يعقوب"([4])

إخوة الإيمان: ففي معرض حديثنا عن الطفل والطفولة يجب أن نستحضر في أذهاننا بأن صغار اليوم هم كبار الغد وأمل المستقبل، وعليهم يتوقف بناء المجتمع المنشود، وبإدراكنا لذلك – أيها الأحباب – نعلم أن مسئوليتنا تجاه الطفولة مسئولية كبيرة، والواجبات نحو الأولاد هي في أعناقنا أمانة ثقيلة؛ ولذلكم فإنه بقدر ما نبذل من جهود في رعايتهم وتربيتهم والعناية بهم، بقدر ما يكون للمجتمع من مكانة ورفعة وسؤدد. لهذا – أيها المسلمون – اهتم الإسلام بالطفل في كل مراحله، وتطور نموه، نعم! – أحبتي في الله – بل حتى قبل ذلك أرشد إلى تهيئة البيئة الصالحة له([5] يتمثل ذلك في ماذا؟ يتمثل في حُسْنِ اختيار له الأم الصالحة، وفي الحديث:[ تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس]فما الذي نستنتجه من هذا- أيها الإخوة الكرام- ؟ نستنتج أن للكائن البشري قيمة غالية، وحرمة عالية؛ حتى قبل أن".. لم يكن شيئا مذكورا"([6]) !! ألا ما أعظمه من احترام ! وما أكمله من تكفل تام ! " حملته أمه وهناً على وهن"([7])حتى إذا وُلِد – وهو صبي في المهد- يصرح القرآن بحقوقه، ويأمر بالسهر على شؤونه" والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف".([8])

أيها المسلمون: هذه رحمة الإسلام، التي جاءت حماية لجميع الأنام، فالتربية الإسلامية تهدف إلى تكوين الفرد الصالح؛ وبصلاح الأفراد تتكون الأسرة الصالحة والمجتمع الصالح والدولة الصالحة المصلحة، وهذا ما يهدف إليه الإسلام، فنجد – قبل صدور الإعلان العالمي لحقوق الطفل والطفولة بأربعة عشر قرنا – فالتربية الإسلامية اعترفت للطفولة بحقوقها الأساسية،  ومن هذه الحقوق حقوق عامة تشمل الإنسان سواء كان طفلا أو شابا، رجلا أو امرأة، وفي طليعتها: حق الحياة التي هو حق مقدس لايستهان به،فقد حث الإسلام على الرحمة بالضعيف، أو العاجز النحيف، وعدَّ الاعتداء عليه جُرْماً كبيرا، وإثما مبيناً، قال تعالى:" ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إنَّ قتلهم  كان خِطْئاً كبيراً"([9]). وبما أن الإنسان يُنشأ حملا، ويولد طفلا؛ فما قد أقره له الإسلام من حقوق، فإنّ إهمالها لا يمكن أن يوصف إلا بالعقوق !

معاشر المسلمين: مما يندى له الجبين ويدمي له القلب ما تتعرض له الطفولة من جرائم وحشية، تعددتْ أشكالها، وتراكمت أثارها؛ مما تخلفه على الطفولة من آثار نفسية شديدة، وجراح عميقة كبيرة، من خلال التخويف والترهيب، !! والاختطاف والتعذيب، !! تطالعنا الصحف يوميا بأخبار موجعة، وأنباء مفجعة، عن أفعال   مفزعة ! والإحصاءات تنبئ عن خطورة الأمر، وتنذر بدق ناقوس الخطر، ويجب أن نعلم بأن حفظ الطفولة وحمايتها مسئولية مشتركة بين الأسرة ودور التربية والتعليم وكذا المجتمع، كل حسب موقعه، وما هو منوط به،[ كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته]([10])

         والواجب هو وقاية الطفولة مما ذُكِر..وكذا من الأمراض والأوبئة الفتاكة، وحمايتها من التشرد، وعدم تحميلها متاعب الأشغال، أو تكليفها بمشاق الأعمال، كما يجب حمايتها من الإهمال، لكي تُنْشَأَ تنشئة سليمة  تهيئها لتحمل المسئوليات فيما بعد بفعالة وإيجابية، وكل هذا يتطلب منا- إخوة الإيمان- عناية عملية، وصدق الله إذ يقول:" ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"([11]) ومنها اختيار الاسم الحسن له، وكذا إعطاء حق الكرامة الإنسانية، التي كرمه بها ربُّ البريّة "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"([12]). وله حق التربية والتعليم، ويكفينا في ذلك أن أوّل ما نزل من القرآن" اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علَّمَ الإنسان ما لم يعلم"([13]). وفي الأثر عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:[لاعب ابنك سبعا، وأدِّبه سبعا، وصاحبه سبعا].وقد قال النظم:([14])

 

إنَّ الطفولة في دنيا الناسِ            كعمدةٍ الحياةِ والأساسِ

صحائف بيضاءَ كالقرطاس        والباقي يُسْتنتجُ بالقياسِ

أيها الأحباب: لابد من مراعاة أيضا ما يتعلق بالعدل والمساواة بين الأطفال، فهذا حق شرعي وواجب ديني لكل واحد منهم في جميع الأحوال، وفي الحديث:[ اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم] وهذه المساواة حتى في جوانب العطف والحنان، لِما لها من أهمية في تعويد الطفل وتربيته على الرفق والإحسان، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل له ولدان قبَّلَ أحدهما وترك الآخر ! فقال له: [ فهلا سوّيت بينهما] ؟!، لذلكم فلا يكفي أن يقوم أحدنا تجاه أولاده بتوفير الطعام، إنما هم بحاجة كذلك إلى الحب والتقدير والاحترام، وإلى التوجيه والإرشاد السليم على الدوام.

فالطفولة – أيها المسلمون- بحاجة إلى الشعور بالأمن والطمأنينة، كما هو-الطفل على العموم- بحاجة ماسة إلى سلطة ضابطة توجهه وترشده إلى السلوك المطلوب حتى لا يضطرب أو يتيه فينقلب !.

يا أتباع محمد: فإن الرسول العظيم، والنبي الكريم، قد وصفه رب العزة "بالمؤمنين رءوف رحيم"([15]) فكيف كانت أحوله مع الطفولة ؟ لنستمع إلى أبي هريرة وهو يحدثنا عن مشهد من المشاهد التي حضرها، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فكان يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، وإذا رفع رأسه أخذهما فوضعهما وضعا رفيقا،! فإذا عاد عادا !! فلما صلى جعل واحدا منهما ها هُنا وواحدا ها هُنا..]([16]) نعم – أيها الأحباب- فقد كان يقطع خطبته رحمة بالأطفال، اسمعوا معي هذه القصة، وتأملوا معي هذا المشهد البليغ الذي يرويه عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال" إنما أموالكم وأولادكم فتنة" نظرتُ إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعتُ حديثي، ورفعتُهُما ! لله ما أرحمك يا رسول الله ! ما أعظمك ياحبيب الله ! ما أكرمك يا نبي الله ! ما أحلمك يا خير خلق الله !، صلى الله عليك وعلى آلك وأهلك وصحابتك أجمعين، آمين، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث لجميع الأنام، وصل اللهم على آله وصحبه على الدوام، ومن تبعه بإحسان إلى يوم البعث والقيام.

وبعد:

         إخوة الإيمان: فالمتتبع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية الطفولة في الإسلام، من ذلك هذه الوصايا الغالية، قوله عليه الصلاة والسلام:[ لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع]([17]) وقوله صلى الله عليه وسلم:[ علموا أولادكم وأهاليكم الخير وأدبوهم]([18])إضافة إلى هذه السنة القولية فقد جسد ذلك في سيرته العملية، ففي الحديث:[ بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، إذ جاءه الحسين، فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود بالناس، حتى ظنوا أنه قد حدث أمر، فلما قضى صلاته قالوا: قد أطلت السجود يارسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر، فقال:[ إنَّ ابني قد ارتحلني- أي جعلني كالراحلة فركب على ظهري- فكرهتُ أن أعجله حتى يقضي حاجته] هذا هو نبي الرحمة، هذا هو معلِّم الأمة !" وإنك لعلى خلُق عظيم"([19]) وجاء في الإصابة أنه صلى الله عليه وسلم كان يُداعب الحسن والحسين رضي الله عنهما فيمشي بهما ويقول:[نعم الجمل جملكما، ونعم العِدْلان أنتما]!فما أحوجنا اليوم إلى أن نتعلم من قدوتنا الذي قال عنه ربنا تبارك وتعالى:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"([20])، فبالرحمة والمحبة والحنان، والرأفة والإحساس والإحسان، نبني مجتمعا سليماً، تنال فيه الطفولة حظها الأوفر من الرعاية والعناية والحماية، فحمايتها حماية للإنسانية، وصدق الله إذ يقول:" .. أنه مَن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"([21]) فاللهم أجعلنا رحماء،

واملأ  قلوبنا بالرحمة والحكمة والتقوى، واحفظ الطفولة من كل بلوى، واحفظنا جميعا بعنايتك، وتولنا بلطفك ورعايتك، واحفظ أمتنا ووطننا وولي أمرنا بما تحفظ به عبادك الصالحين، ووفقنا جميعا لِما فيه الخير والصلاح للبلاد والعباد، اللهم آمين، واحفظ اللهم جميع أوطان المسلمين وولاة أمور المسلمين، في شتى بقاع الأرض يارب العالمين. عباد الله ! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

 

الهوامش:

1- الزمر الآية:7

2- الحشر الآية:22

3- الصافات الآية  100/101

4 - هود الآية:81

5- إشارة إلى الحديث الذي رواه مسلم، ولفظه[ الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة].

6- الإنسان الآية:1.

7- لقمان الآية:14.

8- البقرة الآية:233.

9- الإسراء الآية:31.

10- رواه البخاري ومسلم.

11- المائدة الآية:32.

12- الإسراء الآية:70.

13- العلق الآية:1/5.

14-  أحمد حوميد المهلالي.

15- التوبة الآية:128.

16- رواه الحاكم في مستدركه.

17- رواه الترمذي.

18- رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور.

19- القلم الآية:4.

20- الأنبياء الآية:107.                                    

21- المائدة الآية:32.

من إعداد أحمد حوميد المهلالي/ إمام أستاذ وأمين مجلس اقرأ- عنابة