ابن باديس إمام الجزائر وقائدها إلى برّ الأمان

الخطبةالأولى:   

الحمد لله جعل العلم طهارة للنفوس، ونورا للبصائر، وطريقا إلى الحق، وهاديا إلى الجنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له ، في ملكه، ولا نظير له في ربوبيته، ولا مثيل له في ألوهيته، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله بيّن لنا معالم الدين، وهدانا إلى الصراط المستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: معاشر المؤمنين الموحدّين

احتفل شعبنا الجزائري المسلم بعيد العلم الذي يصادف من كل عام ذكرى وفاة رائد النهضة الإصلاحية، وباعث لواء العلم في الجزائر ألا وهو الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس، ففي مثل هذا اليوم 16 أفريل من عام 1940م فقدت الجزائر علما من أعلامها البررة، وأفل شمس من شموسها العظام، ورائد من روادها الكرام، فرحمك الله يا ابن باديس، عشت ومت مجاهدا من أجل الجزائر والعروبة والإسلام، فربطت الجزائر العربية المسلمة ذكرى وفاتك بيوم العلم حتى لا يموت في ذاكرتها، وتبقى حيّا خالدا مخلدا مخلدا إلى أبد الآبدين، حينما اقترنت ذكرى وفاتك بيوم العلم الذي يرمز إلى الحياة الكريمة، حياة الشموخ والسؤدد، لأنّ الأمم تموت بالجهل، وتحي بالعلم، وحريّ بمقامك في قلوب الجزائريين أن يجعلوا من يوم وفاتك يوما للحياة فخلّدت في تاريخهم بيوم العلم.

أيها المؤمنون:

إن أوّل علا قة تمّت بين السماء والأرض انبنت على القراءة والتعلم، لأنّ الإسلام دين خالد، ورسالة سامية للعالمين، تحمل في طياتها قواعد الصلاح، وأركان السعادة والسؤدد للبشرية جمعاء، واتباع هذه الرسّالة وفهم أبعادها ومقاصدها لا يأتي للجهلة والسوقى من دهماء الناس وعوامهم، لأنّ مصيبة الإسلام إنّما تأتي حينما يتصدّر دعوته وقيادته الجهلة بأحكامه ومقاصده وتشريعاته وآدابه، فيجنون عليه وعلى أنفسهم أكثر ممّا يجنيه الأعداء الحاقدون عليه، والإسلام بريء من كلّ هذا، لأنه دين الله الكامل، فمن أخذه بعلم مكين، وفهم صحيح، فقد أخذ بحظ وافر من الخير والسعادة، ومن أخذه بجهل فإنما جنى على نفسه وعرّض إسلامه للمساومة وصدّ النـاس عنـه، ولذلـك كان الله سبحانه وتعالى خبيرا بضعفنا وجهلنا فجعل من شروط الانتساب إليه وإلى دينـه هو العلـم به، ومعرفـة مقتضياتـه حينمـا قال : (فاعَّلَمْ أنَّهُ لاً إِلًهَ إِلاَّ اللهُ)(محمد : 19).

 أيها المؤمنون :

إنّ الجهل شرّ بلية يصاب بها الفرد وتصاب بها الأمة، وإذا عمّ الجهل وتصدّر أهله زمام الأمور تسلّل على أيديهم شرّ مستطير، ووباء خطير، فهو الطّامة الكبرى، والحالقة التي لا تحلق الشعر وإنّما العباد والبلاد.

 وإنّ ما نجنيه من تخلف وتأخر وخراب ودمار وتشتت وتشرذم إنما بسبب طفو الجهّال على زمام أمورنا، وغياب العلماء في كبرى اختيارات مجمعاتنا.

والحق أنّ العلم عندما ينفصل عن الخلق، ويفارقه الإخلاص يمسي وبالا على أهله والناس أجمعين، وقد كان رسول الله صل الله عليه وسلم  يستعيد بالله من علم لا ينفع فيقول: " إنّ أخوف ما أخاف عليكم بعدي منافق عليم اللسان" رواه البزار.

أيها الموحدون والمسلمون الجزائريون:

إن الناس إن لم يجمعهم الحق شعّبهم الباطل، وإذا لم توحدهم عبادة الرحمان مزّقتهم عبادة الشيطان، وإذا لم يستهوهم نعيم الآخرة تخاصموا على متاع الدنيا.

إنّ الشقاق يضعف الأمم القويّة، ويميت الأمم الضعيفة، ولو عقل المسلمون أحوالهم في هذه المرحلة العصيبة من تاريخهم لأحسّوا بأن ما لحقهم من عار وخيبة ودمار وخراب إنما مرده إلى انحلال عراهم، وتفرّق هواهم.

أيها المؤمنون:

إن شعبنا الجزائري المسلم ابتلى عبر مساره التاريخي بمحن وإحن ونكبات ونكسات، وفي الآونة الأخيرة دخل شعبنا في فتنة عمياء بسبب ما حلّ به من بلاء وخراب، وها هي العافية رجعت إلى ربوع البلاد، وخيّم الأمن في القرى والجبال والوهاد، وبعد أن أطمأن الجزائريون براحة البال، وشعروا بالسلم والأمان.

إن هذا الصنيع المؤلم والمحزن وإن حاول بعض الدّجالين والمفترين ربطه بعقيدة الإسلام وانتسابه إلى سنة خير الأنام، فإنه صنع الهوى ووحي الشيطان والإسلام منه براء، أو لم يصغوا مقولة رسول الهدى ونبي الإسلام محذّرا أمته : " فلا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنّتي ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد" اللهم أهدنا إلى سواء السبيل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  الخطبة الثانية:   

الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، الحمد لله رفع أهل العلـم والإيمان، ومنّ عليهم بالتوفيق والعرفان، فقال منوها بمكانتهم ومنزلتهم عنده : (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتُوا العلم دَرَجَاتٍ)(المجادلة : 11).

أحمده سبحانه وأشكره على جزيل الإنعام وموائد الإكرام، وأسأله التوفيق لمعرفة الحلال و الحرام والهداية إلى ما فيه خير الإنسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله سيد الأنام خير مبعوث وأفضل مرسل لبني الإنس والجان، صلي الله عليه وسلم، وشرف وكرم ومجد وعظم، وعلى آله الأبرار وأصحابه الأخيار وأزواجه أمهات المؤمنين الأطهار والتابعين ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد… فيا أيها المؤمنون ويا أيتها المؤمنات:

اتقوا الله عباد الله فأوثق العرى كلمة التقوى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واعلموا – عباد الله – أن التقوى وحقيقة الإيمان والسلامة من المهلكات والآثام لا تتم ولا تحصل إلا بالعلم النافع لقوله سبحانه: (فاعَّلَمْ أنَّهُ لاً إِلًهَ إِلاَّ اللهُ)(محمد : 19).

عباد الله ٍ ! ! إن أول ما نزل من آيات القرآن الكريم على النبي الأمي محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، وهو يتعبد في غار حراء عن طريق أمين الوحي جبريل هو قول الله سبحانه: (اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، أقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم)(العلق : (1-5).

إنها أول صيحة تسمو بقدر العلم، وتنوه بمكانة العلم، وتعلن الحرب على الجهل، وتجعل اللبنة الأولى في بناء المسلم هو أن يقرأ ويتعلم.

ويكفي مكانة ومنزلة للعلم في الإسلام أن نوّه الله به في القرآن الكريم في أكثر من آية، ومن ذلك أن أقسم الله بوسيلة نيله والحصول عليه وهي آلة القلم في سورة "ن" بقوله سبحانه :(ن والقلم وما يسطرون)(ن : 1).

كما أعلى القرآن الكريم من درجات العلماء بإبراز منزلتهم ومقامهم عند الله حينما قال سبحانه: (شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيمُ)(آل عمران : 18).

ومما جاء في فضل العلماء وتنويها بمقامهم قول النبي محمد عليه الصلاة والسلام، : " إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في الماء ليُصلون على معلمي الناس الخير" (رواه الترمذي).

أيها المؤمنون … قد يتوهم بعض الناس أن العلم الذي عناه القرآن الكريم هو العلم بأحكام العبادة فحسب، أي بأحكام الشريعة  الإسلامية، التي تقوم عليها فرائض المكلفين دون العلم بأحكام الكون وفقه نواميسه وسننه، وكرد على هذا الزعم نجد الله سبحانه جعل خشية العلماء الذين سخّروا فكرهم في الفهم، وعقولهم في التأمل وتدبر الكون كتابه المفتوح فقال سبحانه : (ألّم تر أن الله أنزل من السّماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جُدد بيض وحمر مختلف أوالنها وغرابيب سود، ومن النّاس  والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنّما يخشى الله من عباده العلماء إنّ الله عزيز غفور)(فاطر : 27).

وعلى ضوء ما سبق يتحدد التصور السليم والمقصد الشرعي الصحيح من نظرة الإسلام إلى العلم، على أنه فهم للأحكام الشرعية، وفقه للقوانين والنواميس الكونية، والبحث عن الأسرار التي حباها الله في الكون للانتفاع بها ونيل مراتب القوة والسؤدد لتكون بذلك خير أمة أخرجت للناس؟

أيها المؤمنون… إن التشجيع الذي لقيه البحث العلمي من الإسلام انتهى إلى ذلكم الإنتاج الثقافي والعلمي الباهر في أيام الحضارة العربية الإسلامية عند الأمويين وبني العباس ودولة الأندلس، وإن أوروبا لتعرف ذلك حق المعرفة، لأن ثقافتنا وحضارتنا مدينة للإسلام بتلك النهضة بقرون… فالإسلام لم ولن يقف سدا منيعا في وجه التقدم والعلم بمختلف أشكاله وأنواعه ما دام مفيدا للإنسان، ومحققا لسعادته، ومن توهم خلاف ذلك فهو جاهل أو مستخف بتعاليم هذا الدين.

أيها الجزائريون … في غضون الأسبوع الماضي احتفل شعبنا الجزائري بوجه عام، وطلابنا وعلماؤنا بوجه خاص، بعيد العلم الذي يصادف من كل عام ذكرى وفاة رائد النهضة العلمية والإصلاحية الحديثة، وباعث لواء العلم في الجزائر، ألا وهو الشيخ الإمام العلامة عبد الحميد بن باديس.

أيها المؤمنون … إن تهميش العلماء وعدم إنزالهم منزلتهم اللائقة بهم من الاحترام والتقدير والاستنصاح منهم في أحوال العباد والبلاد ضياع لمصالح الأمة، وذهاب لروحها، وإيذان بدنو آجلها، وأمة حال علمائها هكذا فكبر عليها سبعا لوفاتها.

أيها المؤمنون… إن من الوفاء للتاريخ والوفاء لأصحاب الفضل أن نرد الجميل لأصحابه ونحن في ذكرى وفاة هذا العظيم المجاهد البار العالم الزاهد الذي بلغ قمة السؤدد في جهاده وعمله الدؤوب من أجل الدفاع عن الجزائر العربية المسلمة الحرة المستقلة، أن تسير على المنهج الذي رشمه ابن باديس، ونسلك الخطة التي بني عليها نهضته العلمية الأصيلة القائمة على الإسلام والمتحررة من كل وافد دخيل من الأفكار والمناهج الضالة والمتفتحة على المعاصرة والجديد الذي يخدم أنيتنا وأصالتنا ويتناسب مع حضارتنا وقيمنا الأصيلة وسيبقى ابن باديس وما أثمرته جهوده المضنية شجرة أرفة الظلال، كثيرة الثمار، نستظل بظلالها الوارقة، ونقتطف أطايب ثمارها الحلوة الشهية، ما يعيننا على جمع كلمتنا، ووحدة صفنا، واستجماع قوانا وتحصين شخصيتنا من الانسلاخ والانحلال وجيلنا من النكوص والذوبان، ونحن في عصر يموج بالتيارات الهدامة، ويغري بالوسائل البراقة، ويدغدغ العواطف الملتهبة، ويلعب بالشهوات الجامحة فاللهم هبنا العلم ونو ره، وقنا الجهل وشروره، واجعلنا نسود بالعلم كما ساد به أسلافنا الأولون، اللهم إنه السبيل إلى عبادتك والطريق إلى طاعتك والمؤدي إلى نصرتك والمنجي في آخرتك فاجعلنا اللهم أن نعبدك على علم ونجاهد في سبيلك على علم، اللهم وأغفر لعلمائنا ومشايخنا ومعلمينا وأساتذتنا وجازهم خير الجزاء وارزقهم صحبة السعداء والمعيشة مع الشهداء ورفقة سيد الرسل في مقعـد صـدق عند مليك مقتدر.