وجوب الزكاة في الإسلام ومكانتها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي بنعمته تَتم الصالحات، وبفضله تتنزل البركات، وبعفوه تُغفر الزلات، وأشهد أن لا إله إلا الله رفيع الدرجات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صاحب المعجزات والكرامات، وعلى آله وصاحبه من السابقين والسابقات، وعلى التابعين ومَن اهتدى بهديهم واستن بسنتهم إلى آخر النهايات وبعد :

معاشر الأحبة من المؤمنين والمؤمنات، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته :

لقد عرف الانسان الفقر والحرمان مند أزمنة قديمة، وعرف التاريخ الفقراء والمحرمين مند عهود سحيفة، ومن الانصاف أن نقول : إن الحضارة الانسانية لم تخلُ في عهد من عهودها من دعاة يذكرونها بذلك المعنى الإنساني الأصيل: وهو إحساس الإنسان بآلام أخيه الإنسان ومحاولة إنقاذه من بؤسه، أوالتخفيف من حرمانه، إلا أنه من الإنصاف كذلك أن نقول : إن الواقع العملي لأولئك الفقراء كان سيئا جدا، وكان نقطةً سوداء في جبين الإنسانية لعدم تفاعل المجتمع مع ما أوصي به الحكماء، ولعدم إستجابة الأغنياء لِمَا نادى به العقلاء.

وقد كانت دعوة الأديان السماوية إلى البِر بالفقراء والإحسان إلى الضعفاء أجهر صوتا وأعمق أثرا من كل فلسفةٍ وضعية أو شريعة أرضية، كما حكى القرآن الكريم عن الأنبياء عليم السلام فقال تعالى : " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وكانوا لنا عابدين ". ( الأنبياء:73)، إلا أن تلك النماذجَ الرائعةَ من عناية الأديان السابقة بالفقراء لا تعدوا أن تكون ترغيبا في الإحسان، وترهيبا من البخل على سبيل الإختيار الفردي، ولم تتمتع بدرجةٍ عالية من الإيجاب والإلزام؛ وإنما تركت الزكاة إلى أريحية الأفراد وضمائرهم، ولم تجعل للدولة سلطانا عليهم جمعا وتوزيعا، كما لم تحدد المال الذي تجب فيه الزكاة وشروطه، ولم تضبط النصاب ومقداره المُزكى منه، ولم تبين المستفيدين والمستحقين له؛ مما جعل الزكاة في الأديان السابقة لا تحل مشكلة الفقر ولا تعالج مشكلة الفقراء.

إلا أن الإسلام تميز بمنهجٍ متكاملٍ في موضوع الزكاة، لم يسبق له نظير في ديانة سماوية ولا شريعة وضعية، سواء فيما يتعلق بجانب التربية والتوجيه، أو ما يتعلق بجانب التشريع والتنظيم، أو ما يتعلق بجانب التطبيق والتنفيذ.

وهذا ما يدفعنا للحديث عن وجوب الزكاة في الإسلام ومكانتها، وعن فضل المزكين وفضيلة إخراجها، وعن خطورة التهاون فيها وعقوبة تاركها، وعن سُنة صندوق الزكاة وضرورة إحيائها .

أيها الأحبة الكرام .......

إن فريضة الزكاة تدخل ضمن منظومةٍ متكاملة من اهتمام الإسلام بمشكلة الفقر وتركيزه على ذلك الجانب الإجتماعي والإنساني في رعاية الفقراء. ففي سُوَر القرآن الكريم المكية جعل الله تعالى إطعام المساكين من لوازم الإيمان، وتَرْكه من موجبات الدخول إلى النيران فقال تعالى في سورة " المدثر " عن أصحاب اليمين : " إلا أصحاب اليمين، في جنات يتساءلون عن المجرمين، ما سلككم في سقر، قالوا : لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين " (المدثر: 39)، وفي سورة المعارج أكد على حق السائل والمحروم فقال تعالى : " والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم " (المعارج: 25) وفي سورة الأنعام أشار إلى حق الزروع والثمار عند الحصاد فقال تعالى: " كلوا من ثمره إذا أثمر، وآتوا حقه يوم حصاده .... " ( الإنعام : 144 )، ثم تُوجت هذه الأساليب القرآنية المكية بأسلوبٍ واضحٍ وتسميةٍ صريحةٍ وهي :

" إيتاء الزكاة " فقال مثلا في سورة الأعراف : " ورحمتي وسعت كلّ شيء، فسأكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يومنون " ( الأعراف : 156 ).

وإذا كان تاريخ التشريع الإسلامي ينص على أن الزكاة فُرضت في المدينة المنورة في ظل الدولة فإن الزكاة في العهد المكي كانت مطلقةً ومتروكةً لأريحية الأفراد وشعورهم الأخوي بالواجب اتجاه إخوانهم، ثم جاء القرآن المدني فأعلن وجوب الزكاة بصيغة الأمر الصريح ودعا بصورةٍ واضحةٍ إلى إتيانها فقال في سورة البقرة :"وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة "(البقرة : 110 ) وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم من أركان الإسلام الخمسة في الحديث المشهور : " بني الإسلام على خمس .... "

ثم جاءت سورة التوبة كأنموذجٍ للقرآن المدني في إكمال الصورة النهائية لفريضة الزكاة. ففي مطلع السورة قال الله تعالى عن المشركين : " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ...." وفي آية أخرى من نفس السورة :

"..فإخوانكم في الدين " ( التوبة: 5 ، 11)، ثم جعلها شرطا للقبول من عمار المساجد فقال : " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله .. " (التوبة: 18) ثم رفع سيف الوعيد الشديد على مَن لم يؤد حقها فقال تعالى : " والذي يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " ( التوبة : 34 )، ثم حدد الجهاتِ المستحقةَ لها فقال تعالى : " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله، والله عليم حيكم " ( التوبة : 60 ).

ثم حدد الجهة المكلفة بالجمع والتوزيع لها فقال تعالى:«خُذْ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها..» (التوبة: 103).

أيها الإخوة المؤمنون ...

لقد أنزل الله تعالى المزكين منزلةً، وألبسهم لباسا، وأكرمهم مكرمة، بأن جعلهم من أهل الإيمان، وجزم لهم بالفلاح كما في صدر سورة "المؤمنون" حيث جعل إخراج الزكاة من صفات المؤمنين حقا فقال تعالى: « قد أفلح المؤمنون ...» ثم ذكر من صفاتهم : « والذين هم للزكاة فاعلون ». وقد روى الترمذي والنسائي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لقد أُنزل علي عشرُ آيات مَن أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ : « قد أفلح المؤمنون » حتى ختم العشر.

إنه ذلك المؤمن الغني التقي النقي الذي قهر نفسه، وتمرد على عاطفة حبه للمال «وتحبون المال حبا جما» وطهر جَنَابه من البخل، وزكى فؤاده من الشح، وأخرج زكاة مالِه طيبةً به نفسُه، ابتغاء مرضاة ربه، فكان من هذه الصفوة، وهذه الزمرة المؤمنة التي أخبرنا حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنبائها ، فقد ذكر الحافظ بن كثير في تفسيره حديث أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خلق الله جنة عدن بيده: لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زبرجدة خضراء، مِلاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ،وحشيشها الزعفران.ثم قال لها انطقي، فقالت : « قد أفلح المؤمنون» فقال الله تعالى: «وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل» ثم تلا رسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: «ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون».

 

فلا عجب أيها الإخوة الكرام أن بذل المال في الصدقات أو الزكوات طريق مختصر موصل إلى الجنة، فقد حرضنا القرآن الكريم بأن نسارع إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين، وجعل أول صفة لهم فقال تعالى: «الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين» (آل عمران: 133).

وأكرم الله تعالى المزكين، وطمأنهم على أموالهم بأنها لا تنقص أبدًا بل تزيد، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال » وقال تعالى في الحديث القدسي : « انفق يا ابن آدم أنفق عليك» وقال في القرآن الكريم: «وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين» (سبأ: 39).

نسأل الله تعالى أن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين، كما نسأله عز وجل فعل الخيرات ترك المنكرات وحب المساكين

وأن يحشرنا إليه غير خزايا ولا مبدلين... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

الإمام الأستاذ: ناصر حمدادوش

الطاهير - جيجل

الصنف