العنـف ضد المـرأة

 

العنف مهما كان نوعه : انحراف بالجانب الإنساني الواعي العاقل إلى مراتب الحيوانية البهيمية أو بعبارة أخرى كما يصف ذلك علماؤنا: هو هبوط من الكرامة الإنسانية الشريفة، الذي يضبط قوته العقل والقلب، العلم والإيمان، الخلق والدين، إلى القوة الغضبية السبعية إذ يتحول هذا المخلوق العاقل إلى وحش ضاري وسبع فاتك، قدت الرحمة من قلبه، قطعت الرأفة من فؤاده، فهو "دينسور" معتدي لكنه لم ينقرض، مفسد في الأرض قد يغريك مظهره، أو يأخذك حديثه، أو يبهرك ماله وحاله، ولكنه كما وصفه القرآن: ) ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه وهـو الدّ الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلـك الحرث والنسـل والله لا يحـب الفسـاد( (سورة البقرة 204/205)  لا لشيئ إلا لأن ذلك المخلوق السويّ، والذي كان يفترض أن يسمو به علمه وعمله، دينه وخلقه إلى أعلى المراتب هبط شر هبوط ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين ( إنه أسفل من كل سافل، لا سيما إذا تعلق الأمر بمن أفضى بعضهم إلى بعض، حيث لم يكن بينهما سر بل اختارا أن يكونا تحت سقف واحد في رباط مقدس سماه الحق سبحانه بالميثاق الغليظ.

إن مثل هذه الرابطة ينبغي أن تصان ولا تهان وأن تكرم ولا تثلم،... ولكن كثيرا ما يحدث في واقعنا ما يخالف هذه الرغائب الشرعيـة والمطالب الطبيعية.... و من ذلك العنـف الأسري، أو الاعتـداء على المـرأة بالضرب أو غيره من وسائل العنف.

 

 

1) – العنف ضد المرأة ظاهرة عالمية:

لا شك أن مثل هذه الظاهرة الشائنة، لا تعرف بلدا دون بلد، أو وطنا دون وطن، بل هي بلاء ووباء، يكاد يستقر في كل ناحية من المعمورة، ولكن على نسب متفاوتة ولعل أقل النسب فيها البلدان الإسلامية والعربية وأكثر البلدان تعرضا لهذه الظاهرة هي البلاد الغربية فمثلا:

2) – أمريكا: تشير دراسة أمريكية جرت سنة 1987 أن حوالي 79 % من الرجال يضربون النساء، وأن 17 % من النساء اللواتي يدخلن غرف الإسعاف من ضحايا ضرب الأزواج.

وهذا ما دفع الكثير من المختصين إلى دق ناقوس الخطر كما فعل الكاتب « RICHARD Tones »  الأستـاذ بمعهـد القبالـة وأمـراض النساء في الولايات المتحدة الأمريكية مقالا:

« Américan college obstericias and Gyne cologists »

في مجلة المعهد في يناير 1993 عنوانه " العنف العائلي أو المنزلي فلندع أصواتنا تُسمع" !

« Domestic Violence : letour voices be heard »

يقول : " هناك وباء يجتاح بلادنا إنه لشنيع، وإنه غير قابل للتجاوز عنه أو التساهل في أمره ... إنه يجب أن يوقف وإنه لمرض يبعث على الاشمئزاز، ولا يمكن لأي بلد حضاري أن يقبله، ثم قال " إنه في كل 12 ثانية في الولايات المتحدة الأمريكية تخضع امرأة لهذا الوباء ..... في 12 ثانية امرأة تضرب إلى درجة القتل أو التحطيم من قبل زوج أو صديق وفي كل يوم نرى نتائج هذا الضرب وآثاره في مكاتبنا ... وفي غرف الطوارئ لدينا، وفي عياداتنا".

3)- أما في أوروبا:(1) فتشير إحصائيات حديثة أن العنف الزوجي والعائلي يشكل في أوروبا السبب الأول في الوفيات والإصابات الجسدية والتشويه الخلقي في الفتيات والنساء من الفئة العمرية بين (16-44) سنة، قبل السرطان وحوادث المرور، ويؤدي هذا الإجرام سنويا إلى مقتل 600 امرأة في مجموع بلدان الاتحاد الأوربي (15) قبل انضمام الدول العشر الأخيرة.

وتشكل في ألمانيا الضحيات نصف- هذا العدد، وفي اسبانيا 100 امرأة وفي فرنسا 70 ضحية.

أما عن الاعتداء الذي لا يفضي إلى القتل فأرقامه مخيفة للغاية، فهذه ألمانيا تُحصي حوالي 100 ألف امرأة تتعرض للاعتداء الجسدي من الأزواج، وفي البرازيل تصرح وزيرة شؤون المرأة أن 70 % من النساء تتعرضن للضرب أو العنف الزوجي أو المنزلي على الأقل مرة في العمر، فليس بسيطا إذا كانت مجتمعات متطورة يحدث فيها هذا البلاء المنكر بحيث يكاد يستغرق الأسر كلها أو نصفها.

وليس القصد من هذا العرض تقديم عرض عن حال العنف داخل الأسر في البلاد الغربية بقدر ما هو وصف لظاهرة انحراف الإنسان عن إنسانيته ليتحول إلى وحش أو مجرم في حق نصف المجتمع، فيمن قال فيهن الرسول الله صلى الله عليه وسلم :" النساء شقائق الرجال".

فكيف بالله يتحول الرجل إلى قاتل شقيقته، ورفيقة دربه وأم أولاده إنها قاسمته مرارة الحياة وحلاوتها باجتهاد، وتطارحا أسرارهما في المخادع والمضاجع، نذكر تقارير المنظمة الدولية (أمنستي أنتر ناشيونال)(2) أن ثلث (1/3) من جرائم قتل النساء كان من الأزواج أو الأصدقاء كان بالسلاح الأبيض أو غيره، وأن ثلثا (1/3) آخر كان القتل فيها بإطلاق النار وخمسا (1/5) بالخنق والشنق و(1/10) عشر بالضرب المبرح حتى الموت.

هذا وإن الاستقاضة فيما ذكرنا، ليس لكي نبرئ ساحتنا من هذا الداء القتال !ولكن لكي نتوازن في الطرح فلا تأخذنا العاطفة بعيدا عن الموضوعية تغرقنا في تشنج لا طائل من ورائه.

من هم الذين يمارسون العنف؟ وفي هذا السياق أود أن أجيب عن سؤال مهم مفاده من هم الذين يمارسون العنف ضد المرأة؟ أو بعبارة أخرى في أي فئة من الناس يستشري هذا المرض؟ ذلك لأن أصابع الاتهام كثيرا ما تنال الدول الفقيرة أو المتخلفة أو الفئات الأمية غير المتعلمة، وإن كنت في جوابي هذا لا أعمد إلى تبرئة أحد، فالواقع خير كاشف عن الحقيقة، ولكن طلبا مني للحقيقة التي يجب أن تكون رائد كل باحث، حتى لا نميل أو نحيف، إذ يجدر بالطبيب التشخيص الفاحص والتدقيق الخالص، ليصل بعدها إلى العلاج والعافية.

إن هذا البلاء لا يمارسه الفقراء ولا الجهال، ولا المعدومين ولا المغتربين دون الأصلاء من أهل البلد، فإن بلدا كالبرتغال مثلا الذي ذكرنا أن أكثر من نصف عدد النساء تتعرضن فيه إلى الضرب ولو مرة في العمر على الأقل، هو بلد لا يستورد اليد العاملة، بل يصدرها، وهذه الجنسية أكثر الجاليات الأجنبية عمالةً في فرنسا ويأتي بعدها الجزائريون كما هو معروف.

ثم إن دراسة حديثة(3) أجريت في يوليو (07/2004) تذكر أن نسبة الكوادر العليا تشكل 2/3 ثلثين من الأزواج العنيفين في أوربا ويأتي بعدهم قطاعات أخرى كالصحة من أطباء وذوي المهن الطبية ثم ضباط سلك الجيش والأمن كما أن تحقيقا أجري في هولندا خلص إلى أن 2/1 نصف الذين يعتدون على زوجاتهم من حملة الشهادات الجامعية.

ولا يخفى ما يحدث في عالم الفن، وأربابه من أهل الغنى الفاحش في الغالب فهذا جميس براوان الأمريكي اعتقل مرارا آخرها 28/01/2004 بتهمة ضرب زوجته، وليست المرة الأولى التي يجرجر فيها إلى الاعتقال وسنه تزحف نحو الشيخوخة إذ بلغ 70 عاما، وقد ارتبط الأمير ( أسبن هويبي) شقيق ولية العهد النرويجي بفضيحة من هذا النحو العام الماضي، حيث تناقلت خبره وسائل الإعلام إذ اتهم بضرب النساء والعدوان عليهن ،وقد أعلنت في سابقة لا مثيل لها ولية العهد الأميرة" ميتي ماريت" وقوفها مع شقيقها الأصغر في محنته هذه.

وإن كانت العدالة قد حكمت على المتهم بـ (60) يوما سجنا، وبغرامة مالية تقدر بـ (60) ألف كراون نرويجي وقد حدث للممثلة الشهيرة" ماري ترانتينان" التي قتلها شريكها الموسيقي مغني الروك" بيرتران كانتا" في لتوانيا ضربا حتى الموت.(4)

مما هز فرنسا وأرجاءها تجعل العديد من مشاهيرها يوقعون ما يسمى " بميثاق الرجال لمناهضة العنف تجاه النساء" بمبادرة وزيرة مساواة الرجل والمرأة" نيكول أملين" ومن ألمع الأسماء الموقعة، المضرب الكبير " جوليات كلير" صاحب الشعبية والشهرة العريضة، والنجم التلفزيوني " جان بيير الكباش" " صاحب شركات الإعلان" جاك سيغلا" المعروفة، وما نداؤهم هذا إلا لأن داء العنف الذي وصفنا استفحل في مثل هذه الأوساط وفي غيرها، ولم يمنع من وقوعه علمّ ولا مال، ولا شهرة ولا تمدن.

غير أن تهمة تشيع هنا وهناك تهاوت أركانها، وسقط علاؤها وأعلامها، حين اتهم بعض الغرب العرب بهذا الداء قائلا: " إنّ العرب يعتقدون مثلا في التعامل مع الزوجات: " اضرب زوجتك صباحا ومساءً حتى وإن لم تعرف لماذا؟ فهي تعرف" ... فلسنا ندري من المقصود بذلك.

مع العلم أن بعض حالنا في مجتمعاتنا يبعث على القلق والحيرة، إذ من المفترض أن تكون الأمة الإسلامية بما عندها من تربية روحية، ومبادئ دينية، وأصالة مستمدة من التربية القرآنية والنبوية، ينبغي أن تكون من هذا الداء أسلم، ومن هذا الوباء أنظف، كما أن الرجال فيها ينبغي أن يكونوا بالنساء أرحم وأرأف وأحلم وألطف..... فما سر هذا التناقض في واقعنا اليوم؟

2)- فهم النصوص الشرعية:

لعل السبب في نظري أن كثيرا من هذه الممارسات غير الشرعية ترجع أساسا إلى فساد الدين والخلق وإلى سوء الفهم لبعض النصوص الشرعية، على حد ما قاله الشاعر:

وكم عاتب قولا صحيحا ****** وآفته من الفهم السقيم

وقبل أن نتعرض إلى معالجة هذا الفهم الخاطئ يجدر بنا ذكر بعض النصوص التي تناولت موضوع الضرب للمرأة في القرآن والسنة.

1)- أولا القرآن الكريم:

قال الله تعالى : ) الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهم واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيراً( ( النساء 34).

2) – ثانيا : السنة النبوية:

في حديث مسلم جابر بن عبد الله  " أن النبيصلى الله عليه وسلم خطب في عرفات ببطن الوادي فقال: " اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن عليهم أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح" ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) (5)

بعض الناس يأخذ النص كما هو دون أن يحاول فهم مقصود الشارع منه، ولا أن يفسره في محيطه وسياقه وسباقه ولحاقه، ثم إن الفهم لا يجوز أن يكون في معزل عن النصوص الشرعية إذ لعل في نصوص أخرى ما يقيّد مطلقه أو يخصص عامه، أو يبين مشكلة أو يفصل مجمله وهكذا ولذلك سنحاول فهم هذه النصوص على النحو التالي:

1)- إن الآية الكريمة إنما نصت على حكم خاص وهو الضرب لفئة خاصة من النساء بعد مراحل من العلاج لظاهرة النشوز.

2)- الصالحات القانتات الحافظات للغيب: أي الزوجة المطيعة لزوجها المحافظة على شؤون أسرتها من قريب ومن بعيد فهذه الفئة لا يجوز التعرض لها بأي نوع من أنواع الإيذاء مهما كان بل شيء منه يعتبر ظلما وعدوانا محرما (6).

ب ) – الزوجة الناشز:

والنشوز في اللغة (7) هو النتوء والعلو والارتفاع واستعير هذا اللفظ للزوجة للدلالة على خروجها عن طاعة الزوج (8) بغير مبرر شرعي وتمردها عن رضاه بحيث يخشى من ذلك انفراط عقد الزواج وتدمير الأسرة فهذه هي الصورة التي نصت الآية على معالجتها بالمراحل التالية:

1- الوعظ 2- الهجر 3- الضرب

مع وجوب التأكيد أولا: على أن الترتيب في المعالجة مقصـود شرعا بحيث لا يجوز الانتقال إلى المرحلة الثانية إلا بعد استيفاء كل الطرق المنهجية في سياقتها، وهكذا.

ثانيا: هناك انحراف في فهم مدلول الضرب إلى  ما لا يصح أن ينسب لعاقل بله أن نصف به الشارع الحكيم بحيث نجد الرجل يمارس هذه المعالجة بعيدا عن كل الضوابط الشرعية وهو كذلك آثم قطعا، وقد ترضى بعض النساء بهذا الوضع ظنا منهن أن الله أمرنا بذلك، والأمر على خلافه تماما.

ثالثا: أن هذا الانحراف طال كذلك المرحلتين السابقتين سواء بسواء مما جعل الجهلة يقفزون إلى المرحلة الأخيرة في معالجة النشوز وهم بذلك ظلمة كما قال الفقهاء.

فالإشارة بقوله تعالى) فعظوهنّ( إلى الموعظة ليس كلمة عابرة نمر عليها دونما روية أو تفهم فهي تحصل بالإرشاد والتوجيه، والملاطفة والإشارة ثم التوبيخ هذه صور الموعظة أما طريقتها فتكون باللين والرفق. بل وبالحسنى كما قال الحـق ) وجادلهم بالتي هي أحسن(  ) أدع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة( ( سورة النحل الآية 125).

وإذا كان اشتُرط من موسى أن يدعو فرعون إلى الاستقامة بالقول اللين، فما بالك الزوجة أم ولدك ورفيقة حياتك ! إن أهل العلم، اشترطوا للموعظة شروطا ثلاثة: العلم أولا والرفق ثانيا والحلم ثالثا..

" ولا أظن أن من اتخذ هذا المنهج القويم في المحاورة والنصح يفشل في مهمته اللهم إلا إذا كان غير صادق أو أن مخاطبته شيطان مارق !

* وأما الهجر في الآية: ) واهجروهن في المضاجع( فإن علماءنا يقولون بعدم جواز الهجر في غير المضجع، أي الفراش ذلك لأن الفراش مكان تذوب فيه الأحقاد، فإذا ولى الزوج ظهره عن زوجته ومارس هذه المقاطعة الجنسية أمكن أن تعود المرأة إلى لباس الأنس، ويزول عنها مرض النفس ! ولكن لا يجوز أن يهجرها في الكلام نهارا ولا ليلا فوق ثلاثة أيام (9)، فإذا فعل ذلك فهو عاص مرتكب لمحرم: قال الر سول الكريمصلى الله عليه وسلم " لا يحل لمسلم أن  يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال " وزوجته أولى الناس بهذا الحكم فأنت ترى أنه قبل الوصول إلى المرحلة الثالثة تجد أمامك فرصا عديدة ومنهجية تربوية في معالجة ظاهرة النشوز والعصيان والتمرد. سطا عليها جهل الجاهلين فمارسوا ما ليس لهم بحق وصاروا قدوة سوء يصدون عن سبيل الله.

رابعا: إن مما يجب التنبه إليه أن الشارع الحكيم إنما نص على وسيلة الضرب في حالة نادرة وهي نشوز المرأة أي التمرد والعصيان الذي يشبه العصيان المدني الذي تقوم به جماعة ما أو فئة ما فتعالج السلطات العمومية هذا الوضع بوسائل الضرب وغيره مع الفارق طبعا في المثال، فإذا استعملت هذه الوسيلة المشروعة دستوريا بغير مناسبة أو دون سبب كانت السلطة معتدية مستبدة ظالمة حكمت على نفسها بالزوال لأنه لا بقاء للظالم.

فمثلا إليك هذا النص القرآني في وصف حالة من الحالات المتقدمة في عدم الانسجام بين الزوجين ولكن مع ذلك لا يجوز معها الضرب بأي شكل من الأشكال قال الحق سبحانه : ) وعاشروهن بالمعروف فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا( ( النساء19) إنها حالة كره الزوج لزوجته ورغم ذلك لم يشر القرآن لا إلى عنف ولا ضرب ولا شتم أو نقيصه، وحاشاه فما شرع الضرب إلا في حالة النشوز الذي هو مخالفة للنظام المفضي إلى الضرر والمؤدي إلى خراب الأسرة وضياع مصلحة أفرادها فإذًا هناك فساد ظاهر وحقوق ضائعة وليس مجرد عاطفة قلبية فحسب، بل يجب التوازن في معالجة هذه الزوجة لعل الله يجعل فيه الخير الكثير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم : " لا يفرك (يبغض) مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر".

ثم لو رجعنا إلى عموم النصوص القرآنية في حسن المعاشرة والدفع بالتي هي أحسن، لطال بنا المقام، وفيما ذكرنا غنية.

- شروط الضرب وتحديد مفهومه الصحيح:

لا يخفى أن هذه الوسيلة العلاجية للحالة المذكورة ليست مقصودة لذاتها فإذا تحقق مقصود الشارع بغيرها لم يجز اللجوء إليها ثم إن كلمة ضرب في الفقه            لها دلالة كثيرة جاء القرآن الكريم ببعضها:(10) فليس كل ضرب معناه الضرب باليد أو العصا، فالسفر واليسر في الأرض يسمى ضربا قال تعالى : ) وإذا ضربتم في الأرض( ( النساء101) ) وآخرون يضربون في الأرض ( (المزمل 20) ويأتي بمعنى الوصف والبيان كما في قوله تعالى: ) وتلك الأمثال نضربها للناس ( وتتوسع اللغة في استعمال هذا اللفظ كضرب النقود أي صكها وضرب العود والناي في العزف ........ هكذا وقد يدل على الضرب المعروف كما سنبين في نص الآية.

المقصود بقوله تعالى : ) وأضربوهنّ (.

لقد قيدت السنة النبوية هذا الإطلاق، كما هو في الحديث السابق الذي حدد متى يؤذن للرجل بفعل ذلك؟ وكيف يكون؟ وهذا نص آخر شبهه قال صلى الله عليه وسلم :" أيها الناس إن لكم على نسائكم حقا، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن  ألا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفات تكون المرأة من خلالها ناشزا مستوجبة للتأديب المذكور على الترتيب الوارد في الآية.

إذًا الضرب بينته السنة، بأنه غير مبرح فما هو يا ترى الضرب غير المبرح؟

قال عطاء سألت ابن عباس ما هو؟ فقال الضرب بالشراك ونحوه (11) وشراك النعل (أو الخيط الذي يقفل به النعل) ورواية أخرى بالسواك ( وهو لا يتجاوز حجم القلم) ولعله يؤكده ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم لعائشة في كلام يشبه المداعبة والتأديب لا التعنيف و التأنيب" والله لولا مخافة القصاص يوم القيامة لأوجعتك ضربا بهذا السواك".

فمن مجموع النصوص استخلص الفقهاء والمفسرون صفة الضرب بقولهم هو ضرب التأديب لا التأذيب، لا يكسر عظما، ولا يُسيل دما، ولا يشين جارحة ولا يترك أثرا على الجسم، فلا مكان فيه للتشفي أو الانتقام أو إهدار كرمة الإنسان.

ويشبهه الضرب الخفيف باليد أو القصبة الصغيرة في حجم السواك كما قال محمد عبده.

كما ينبغي أن نعلم أنه مع هذه الشروط، قال العلماء : " لا يجوز الضرب على الرأس أو البطن أو الصدر أو الوجه، أو غيرهما من الأماكن الحساسة مخافة الضرر والإتـلاف، وهـذا لا يجوز قطعا حتى ولو كان المضروب دابة لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في بيت".

- هذا فإن فاءت ورجعت إلى رشدها فلا يجوز للزوج التعدي بل هو آثم قطعا مرتكب لما حرم الله ومخالف لشرعه قال الحق سبحانه : ) فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (. الآية. والسبيل : هو الأذى والتعنيف والتعسف بقول أو فعل وهذا نهي صريح عن ظلمهن ومن ذلك أن يقول لها أنت لا تحبينني أو أنت تبغضينني فهذا أذى يجب اجتنابه كما قال الماوردي.

 

4)- العنف لغة العاجز:

إن منهج الإسلام في معالجة الأشياء لا تخرج عن الرفق واللين، والحلم والعلم في كل شيء، لذلك قال النبي  صلى الله عليه وسلم " ما دخل العنف في شيء إلا شأنه"(12) فهذه قاعدة ابتدائية وعامة، وبعبارة علماء الأصول النكرة في سياق النفي نعم، فكل شيء يدخله العنف فهو مشين !  هذا وإننا   إذا استعرضنا بعض الأحاديث الشريفة تخلص إلى أن الضرب وسيلة مكروهة غير محببة، ولكن إن كان لابد منهـا فعلـى النحو المذكور سابقا.

يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: " لا تضربوا إماء الله"، أخرجه أبـو داود والنسائي وابن ماجة (13).

وقد نهى عن ضرب النساء، فجاءه من يشكو إليه نشوز امرأته وتمردها فرخص بشروطه قائلا في الذين يضربون أزواجهن" ليس أولئك بخياركم " أخرجه أبو داود.

وقال في تبغيض هذا الفعل: " أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته، كما يُضرب العبد، يضربها أول النهار ثم يضاجعها آخره" البخاري وابن ماجه وغيرهما.

- وتقول عنه السيدة عائشة أم المؤمنين " لم يكن الضرب خل رسول الله صلى الله عليه وسلم " وتقول أيضا" ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط، ولا خادما، ولا ضرب شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله" أخرجه ابن ماجة.

- فهذا هو رسول الله بسنته القولية والفعلية قدوتنا التي لا نحيد عنها لقوله تعالى : ) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (.

- فلا يلجأ إلى العنف أو الضرب إلا العاجز في نفسه، وهذا مأخوذ من حديثه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الناس" ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب"(14).

- فالظالم ضعيف والمظلوم أقوى، والعنيف عاجز بكل المقاييس الإنسانية لذا قال غاندي في كتابه" قصة تجاربي مع الحقيقة" ... أنا أدرك كل يوم أن البحث يكون عنه طائل ما لم يتخذ من الأهيمسا أساسا له" "والأهيمسا" هي سياسة اللاعنف، و أضاف ينبغي نبذ الإثم لا الآثم، وهذا هو منهج القرآن في التعامل مع الخاطئين ) لعلكم من القالين ( ( الشعراء168) أي تاركين للعمل والفعل القبيح، لا للفاعل في حد ذاته،....

تقول الطبيبة الألمانية المعروفة (استر فيلر) " إن الشخص الذي يستطيع اضطهاد شخص آخر هو الشخص الضعيف المحتاج إلى  المساعدة وليس الشخص الأقوى بدنيا أو فكريا، فليس العاشق هو صاحب السلطة وإنما المعشوق".

فليس الخير من يفعل ذلك بل ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" الترمذي وغيره.

بل السنة  النبوية تدعو إلى التعقل والحكمة كما في حديث البخاري في الآدب المفرد،" عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش" وروي الآجري:" عرفوا ولا تعتقوا" ولعل آخر ما يمكن استحضاره في هذا الباب أن آخر وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس قاطبة قوله :" استوصوا بالنساء خيرا" كررها مرارا.

وفي الأخير ينبغي القول بأن النص الوارد في هذا الشأن لا يقصد به العقاب والتعذيب بقدر ما يقصد الشارع إلى التأديب والإصلاح لوضع ناشز غير سوي، وليس هذا خاصا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو شريعة الإسلام فقط، بل حدثنا القرآن أن سيدنا أيوب أقسم ليضربن زوجته التي قصرت في خدمته ونشزت عنه واستعصمت عليه فقال : " والله لأضربنك مائة جلدة فأفتاه الله تعالى حتى يخرج من حرج الحلف بحيلة شرعية فقال : ) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ( ( سورة ص الآية 44) فتحلل من قسمه بأن أمسك ضغثا وهو الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان وضربها به مرة واحدة فقل بالله ماذا يحدث لها ذلك من الأذى؟ !

إن هذا النص يدل على تشوق الشارع الحكيم إلى استبعاد المعنى العقابي في هذا النوع من الضرب....... لماذا نتعسف في الحكم على الشارع أو نتعسف في استعمال الحق؟

وفي الختام:

يجدر الإشارة قبل أن نطوي صفحة هذا البحث إلى أن النشوز قد يكون من الزوج أيضا يقول الحق سبحانه: )وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو عراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خيراُ ( ( سورة النساء 128).

فهذه صورة أخرى لانحراف الإنسان عن إنسانيته، وخروجه على النظام وتمرده على القوانين والأعراف، يعرضها القرآن بين علاجها، حيث يقول الفقهاء أن الزوج الناشز أو المسيء يجب أن يلقى عقابه وجزاءه على أن لا يتقذ هذا الإجراء زوجته وذلك حفاظا عليها من سطوته وسلطانه فقد  تتحول إلى ضحية بين يدي حيوان مفترس لو فكرت في ضربه أو لكمه، لذا فإن الشارع الحكيم عهد بتنفيذ هذا الحكم إلى القاضي أو من يقوم مقامه أو ينوب عنه(15)، ولا يقف الجزاء عند الضرب إذا استحقه، بل قد يتعدى إلى ما هو أكبر كالسجن ونحوه.

فالنشوز ظاهرة انحراف في البنية الإنسانية وهي حاصلة من الزوج والزوجة والدواء والعلاج له موصوف سواء بسواء، غير أن التنفيذ مختلف في الصورتين.

ثم إنه ينبغي توضيح أمر مهم وهو أن المنهج الشرعي في نظام العقوبات الإسلامي والذي ليس هذا محله يوكل من ينوب عن المظلوم الذي لا يستقل بالانتصار لنفسه، مخافة أن يكون المظلوم هو أول من يحترق بنار الانتقام إذا باشر ذلك بنفسه.

ولا شك أن معالجة النشوز ليس تأديبا لأنوثة المرأة وجوهرها ولكنه تأديب لشذوذ تسرب وحاول أن يشوه سمعتها وينزل مكانتهـا، والأمـر كذلـك بالنسبة للرجل.

وأخيرا أقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن علي رضي الله عنه فيما رواه ابن عساكر" ما أكرم النساء إلا كريم ولا هانهن إلا لئيم" وقد رمز له السيوطي بالصحة(16).

 

الهــــوامــش

1- مجلة زهرة الخليج عدد: 1328، ص76.

2- زهرة الخليج ص 72.

3- الرجح   ص 73.

4-    =     ص73.

5- تفسير ابن كثر 1/65 وتفسير المنير، د. وهبة الزجيلي 5/6.

6- التفسير المنير، د/ وهبة الرحيلي، 5/55 الجواهر الحسان، الثعالبي، تحديث د/عمار طالبي 1/440.

7- مختار القاموس المحيط، الطاهر أحمد الزادي، ص604.

8- التفسير المنير د/وهبة 5/56.

9- قاموس القرآن، الدامغاني ص 288.

10- التفسير المنير، د/وهبة الزحيلي 5/57.

11- في رواية: ما كان …….

12- وكذا السيوطي في الجامع، برقم 19 91، ورمز له بالحجة.

13- في الجامع المغير برقم 7578 ورمز له بالحجة.

14- راجع الفقه المالكي الميسر، د/ وهبة الزجيلي ج2، ص 221 وما بعدها دار الكلم الطيب دمشق ط 1 1/2000.

15- فيض القدير للمأوي شرح الجامع الصغير للسيوطي 3/496 دار المعرفة بيروت.

بقلم   الدكتور: يوسف بلمهدي