*الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وجعل تكامله يحسن التنشئة والتعليم وهداه بعقله وعلمه إلى الصراط القويم، نحمده تعالى على فضائل النعم وأنواع الكرم وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماء ورب العظمة والكبرياء وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، فاللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الحياة التي نحياها أيها الإخوة المؤمنون مليئة بالأحداث والمناسبات والذكريات، وكلما مر بنا يوم جديد إلا وذكرنا بحدث من أحداث التاريخ الحافل بالأمجاد والمفاخر، وما أحسن وأروع الذكريات، ففي إحيائها إحياء لتراثنا القومي وإصلاح لواقعنا الحالي وعلاج نافع للآفات الاجتماعية، ونحن بهذه المناسبة السعيدة السارة نحتفل بذكرى يوم العلم هي سنة من السنن الحميدة التي سنتها بلادنا منذ طرد الغزاة الفرنسيين غداة الخامس جويلية من سنة 1962.
في السادس عشر من أبريل من كل سنة يحتفل الشعب الجزائري بذكرى يوم العلم التي هي يوم وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس ولتكون وفاته إنبعاثا للأمة ودفعا لها من جديد فهي حياة بعد الحياة وتربط الصلة بأسلافنا الطاهرين فتعيش في كشف العلم والعلماء العاملين الذين كرسوا حياتهم للعلم، وأفنوا أعمارهم في سبيل تحصيله والاغتراف من معينه الذي لا ينضب.
أيها الاخوة المؤمنون: إنكم معي بدون شك إذا قلت بأن لكل بنيان قواعد ولكل حضارة ركائز ودعائم ثابتة تعتمد عليها، والإسلام يعد العلم ركيزة أساسية تقوم عليها كل عناصر الحياة، وتتأس عليه دعائم العقيدة الصحيحة، إنه الدين الذي يدعونا إلى توحيد الله وعبادته.
وعندما يدعونا إلى ذلك فإنه يأمرنا: أولا بالنظر في كونه الرحب الفسيح لتتجلى عظمة الله في كونه ومخلوقاته، فالإسلام دين علم ودور وحسبك دليلا على قول رسول الله صلى الله وسلم: " من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ومن أرادهما معا فعليه بالعلم" وكما هو معلوم فإن التقوى هي أساس كل فضل وجماع كل خير فالوسيلة الوحيدة للتقوى هي العلم، ونجد في مصدري الوحي الكتاب والسنة الكثير من الآيات والأحاديث المنوهة بشأن العلماء ومالهم من منزلة رفيعة ودرجة عالية ومكانة مرموقة منها قوله تعالى : (( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)) وعندما يدعونا ربنا عز وجبل في كتابه لنوحده ونطيعه وللتعرف على كماله سبحانه فإنه يخاطبنا دائما بلفظ" اعلم" ((فاعلم أنه لا إله إلا الله)) فالإشارة في قوله "فاعلم" تحمل من المعاني ما تحمل أي أنك لا تتعرف على الله معرفة حقيقية إلا إذا كنت عالما وعلى قدم راسخ من المعرفة، ولقد رفع الإسلام شأن العقل ورغب في طلب العلم بل جعله فريضة على كل مسلم ورفع منزلة العلماء وأكرمهم وأعلى شأنهم ومكانتهم حتى جعلهم ورثة الأنبياء وفضلهم على العباد والزهاد والمجاهدين فعن أبي الدرداء، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر. "رواه أبو داود.
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أحد أوعية العلم : " والذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله تعالى علماء أما يرون من مكانتهم" ويقول صلى الله عليه وسلم : " إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العباد كفضل القمر على سائر الكواكب".
أيها المؤمنون: اعلموا أن قلبا لا يسقى بمياه العلم غير جدير بان يكون موطنا للطهارة والعبادة ولا مغرسا للأخلاق الفاضلة فبالعلم ساد من ساد وارتفع من ارتفع وبالجهل دكت معالم أمم وخربت بيوت ودول وما أروع قـول القائل إذ يقول:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهـم |
على الهدى لمن اهتـدى أدلاء |
وقدر كل امرئ ماكان يحسنـه |
والجاهلون لأهل العلم أعـداء |
قفز بعلم تعش حيا بـه أبـدا |
الناس موتى وأهل العلم أحياء |
وقادة الدنيا ترى بماذا سادوا وقالوا. لقد سادوا بالإيمان والقرآن وقادوا بالعلم والإحسان فكانوا للدنيا هداة خير ودعاة رشد وكانوا نماذج وصفهم القرآن ومدحهم فقال : ((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)).
فاتقوا الله عباد الله واحرصوا على طلب العلم ان كنتم تريدون عز الدنيا وسعادة الآخرة، فإن خلافة الإنسان على هذه الأرض مرتبطة بالعلم وقائمة على أركانه، اللهم إنا نسألك علما نافعا ويقينا صادقا ونسألك قلبا خاشعا ولسانا ذاكرا، اللهم علمنا علما نافعا به نتقرب إليك وبه نتعرف عليك، اللهم اجعلنا ممن سبقت لهم العناية فلا تضرهم الجناية، اللهم أغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وأرحم ضعفنا وتول أمرنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات وادعوا الله.
*الخطبة الثانية:
الحمد لله وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ومجتباه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وكل من تمسك بهديه واستن بسنته وسار على نهجه واحتمى بحماه، أما بعد أيها الاخوة المؤمنون: فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : "اثنان إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس العلماء والأمراء" العلماء بالنصح والإرشاد والأمراء بالتطبيق ومحاربة الفساد، ولقد قيض الله تعالى لأمتنا في كل عصر علماء عاملين ينفون عن الناس أسباب الغفلة واللهو والفساد ويردونهم إلى جادة الصواب، منهم إمامنا الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس (رحمه الله) رائد النهضة الجزائرية الذي أحيا بعطائه أمة من موات، أي والله لقد كان ابن باديس أمة لوحده يستحق أكثر من الوفاء واتخاذ سيرة هذا الرجل العظيم مثال احتذاء ومنار اقتداء بل تجديد العهد دائما معه بعد أن صارت حياته نبراسا للجيل الصاعد المعتز بالعروبة والإسلام، إن العلامة ابن باديس رجل تخرّج من جامعة إسلامية عريقة إنها جامعة الزيتونة ووفقه الله لتفسير القرآن الكر يم كاملا واعترف له علماء الأزهر بذلك ونال به مرتبة الشرف والامتياز وشرح موطأ الإمام مالك شرحا كاملا مستفيضا وكان مرشدا ومعلما وداعية وجند كوكبة من خيرة علماء الأمة في جمعيته فكانوا جميعا هداة أحي الله بهم هذه الأمة فحافظا على هوياتها.
إن الأجيال مطالبة بتحقيق ما حلم به العلامة ورفاقه العلماء الأفداد وذلك بتعلم سائر العلوم والفنون ليتمكنوا من مواكبة العصر الذي يعيشونه فيتسنى لهم بذلك الدفاع عن مقدساتهم وحرماتهم وعقيدتهم وأوطانهم.
فيا أبناء الإسلام، ويا طلبة العلم يا من شرفكم الله بالنهل من ميراث النبوة اتقوا الله في طلبكم للعلم، وأنتم أيها المدرسون يا من حملتم أمانة التعلم والتربية لفلذات أكبادنا، كونوا لهم قدوة وخير مثل يحتذى به في الخلق والاستقامة، فأنتم مربون قبل أن تكونوا ملقنين.
- أيها الاخوة المؤمنون: هذه هي المعاني السامية والمزايا الحميدة التي يحملها إلينا يوم العلم من كل سنة، وهذا ما يجب تحقيقه وغرسه في قلوب ناشئتنا ليشبوا على الفضيلة ويبتعدوا عن الرذيلة فيكون أبناء ابن باديس أحرارا وبررة لوطنهم، وتقلع طائفة منهم عن المغامرة بإلقاء أنفسهم في عرض البحر فرارا من أوطانهم التي بذلت الغالي والرخيص من أجل تعليمهم وتكوينهم مصداق قول صاحب الذكـرى الذي قال:
يا نشء أنت رجاؤنــا |
وبك الصباح قد اقتــرب |
خذ للحياة سلاحهــا |
وخض الخطوب ولا تهــب |
أيها المؤمنون: ما للذكريات إلا محطات هامة تحوّل مجرى الحياة وتسمو بالعباد إلى معرفة الدين وحب الوطن وخدمة للصالح العام.
علينا جميعا أن نتمسك بهذه المبادئ السامية وأن نتسلح بالعلم النافع وذلك بالتفافنا حول مسعى فخامة الرئيس الرامي إلى إرساء الصلح والمصالحة بين أفراد الأمة، هذا المسعى الذي هو مطلب من مطالب الشعب لأنه لا حياة ولا كرامة إلا في ظل التسامح والعفو والمحبة والوئام، وأرفع من هذا المقام إلى فخامة الرئيس أن المواطنين جميعا يباركون مسعاكم ويؤيدون خطاكم ويتمنون لكم المزيد من التوفيق والنجاح.
اللهم اجمعنا على كلمة واحدة وهدف واحد وأخوة شاملة، اللهم إن قلوبنا متجهة إليك ونفوسنا متطلعة إلى عفوك وليس لنا رب سواك فاللهم إن كانت لنا دعوة مستجابة فإننا ندخرها لفخامة رئيسنا فهو أحق وأجدر بها ففي صلاحه صلاح الأمة وفي توفيقه توفيقها وفي نصره نصرها وفي عزه عزها، فاللهم أيده بما أيدت به عبادك الصالحين ووفقه لما وفقت إليه عبادك المتقين، نسأل الله له الهداية والصحة والعافية والسلامة من كل بلية ونرجوه سبحانه أن يؤسد أمره ويعز نصره وينفعه بما وصل إليه ونوى.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أرادنا بسوء فأجعل كيده في نحره واشغله في نفسه، وفق اللهم قادتنا وولاة أمورنا لما فيه عزنا وصلاح أحوالنا واجعلهم من العاملين بكتابك المطبقين لشريعتك.
مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية تلمسان