الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أرسل سيدنا محمدا إلى الناس ليهديهم ويقوّم فيهم الاعوجاج، وأكرمه تعالى بالإسراء والمعراج ليريه من آياته الكبرى، فكان برحلة الأرض والسماء أسبق الورى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صاحب الفضل الواسع والكرم العميم، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو القوي المتين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: يقول الله تعالى في سورة الإسراء: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) [الإسراء:01]. ويقول عز من قال ي سورة النجم: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى. عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى))[النجم: 13-18].
أيها المسلمون: إن الله تبارك وتعالى قد أكرم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الآيات السابقة- بمعجزتي الإسراء والمعراج ليبين فضله، إذ لم يكن للأنبياء قبله إسراء ولا معراج، وليطلع على مظاهر القدرة الإلهية وعجائبها، وليرى مكانته عند ربه وحظه من رضوانه. فما معنى الإسراء والمعراج؟
- الإسراء: هو انتقال النبي صلى الله عليه وسلم ليلا من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس.
- المعراج: هو صعود النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس إلى السموات العلى.
أيها المسلمون: روى البخاري عن مالك بن صعصعة -رضي الله عنهما- أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قد حدثهم عن ليلة الإسراء فقال: "ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض-قال الراوي: وهو البراق-يضع خطوة عند أقصى طرفه، فحملت عليه...."الحديث. وفي وصف هذه الليلة الجليلة المباركة، يقول شوقي رحمه الله:
أسرى بك الله ليلا ، إذ ملائكـة والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما خطرت بـه التفوا بسيدهـم كالشهب بالبـدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفـز بحبيـب الله يـأتمـم
جبت السماوات أو ما فوقهن بهم علـى منـورة دريـة اللجــم
ركوبة لك من عز ومن شـرف لا في الجياد ولا فوق الشك والشهم
مشيئـة الخالـق الباري وصنعته وقـدرة الله فـوق الشـك والتهم
حتى بلغـت سمـاء لا يطـار لها علـى جنـاح ولا يسعى على قدم
أجل، أيها المسلمون، بعد تلك الخطوب والملمات التي تنوء بحملها الرواسي، والتي تحملها النبي -صلى الله عليه وسلم- بثبات وصبر وشجاعة؛ ابتداء من أذى قومه له ولأصحابه، وحصاره في الشعب ثلاث سنين، ووفاة عمه أبي طالب، وزوجه السيدة خديجة -رضي الله عنها-، وإعراض أهل ثقيف عن دعوته، وإغراء سفهائهم به، يرمونه بالحجارة ويسبونه، حتى ألجأوه إلى بستان عتبة وشيبة ابني ربيعة....بعد تلك الأحداث الجسام، المبسوطة في كتب السيرة النبوية جاءت هذه الرحلة المباركة، لتوكد قوله تعالى دائما وأبدا:" ما ودعك ربك وما قلى"، ولتزود النبي -صلى الله عليه وسلم- بطاقة روحية إضافية، تزيده قوة وإصرارا وصبرا وثباتا، إنه النبي المكرم عند الله، المنصور من عند الله، ولو كره الكافرون.
أليس من تكريم الله له -عليه الصلاة والسلام-، بلوغه سدرة المنتهى؟ كما جاء في حديث مالك بن صعصعة السالف الذكر:" ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذ ورقها مثل آذان الفيلة"-الحديث- رواه البخاري . أليس من تكريم الله له أنه جلَّا له بيت المقدس وهو بمكة؟ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: " لما كذبتني قريش، قمت في الحجر، فجلا الله لي ببيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه"-رواه البخاري- أليس من تكريم الله له ما رآه من عجائب وآيات؟ كذهابه من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، ورجوعه في جزء من الليل، وتمثل الأنبياء له، وصلاته بهم وعروجه إلى السموات العلا، وترحيب الأنبياء به ورؤيته جزاء بعض الاعمال؟ فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه عليه الصلاة والسلام مر على قوم يزرعون ويحصدون في يوم، وكلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل: ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة سبعمائة ضعف وأتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت، فسأل جبريل فقال هؤلاء خطباء الفتنة..."الحديث...رواه الطبراني والبيهقي.أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه..
الخطبـة الثانية:
أحمد الله على آلائه، وأصلي وأسلم على خير خلقه وصفوة أنبيائه أما بعد:
فمهما تعددت الآراء والتحليلات حول معجزة الاسراء والمعراج، كمسألة الإسراء بالروح والجسد، ومسألة تسمية ذلك العام بعام الحزن...إلخ، فإن في هذه المناسبة من الدروس والعبر ما لا يخفى على اللبيب الأريب. فأول هذه الدروس المستفادة: أن على الدعاة والمجاهدين ألا ييأسوا من تحقيق النصر، مهما طال أمد الظلم والفساد، قال تعالى: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ))[الغاشية:21-26] وقال: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوْا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِيْنَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوْا حَتَّى يَقُوْلَ الرَّسُوْلُ وَالَّذِيْنَ آمَنُوْا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيْبٌ)) [البقرة: 212].
أمما الدرس الثاني معاشر المسلمين: فهو موقف سيدنا أبى بكر الصديق رضي الله عنه- فقد سعى رجال إلى أبى بكر -رضي الله عنه- لمعرفة موقفه من هذه المعجزة التي لم نجد بينهم من يصدقها، فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق- قالوا أتصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك"، فسمي من ذلك اليوم صديقا.
فرضي الله عن سيدنا أبي بكر الصديق، القدوة المثلى في الإيمان والتضحية والفداء والمحبة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وينتصب أمامنا الدرس الثالث من هذه المعجزة، إنه الصلاة. وما أدراك ما الصلاة!؟ فقد كان جبريل عليه السلام ينزل من السماء إلى الأرض لتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم جميع الفرائض والأحكام، من زكاة وحج وجهاد وميراث...وغيرها، أما الصلاة فقد فرضها الله تعالى في السماء، وباستدعاء تكريمي لرسوله عليه الصلاة والسلام.
أيها المسلمون: إن أول صفة للمؤمنين المفلحين: إقامة الصلاة، قال تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ))[المؤمنون:1-2] وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"- متفق عليه-
ويحدثنا حاتم الأصم -رحمه الله- على إقامة الصلاة فيقول:" إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف، وأكبر تكبيرا بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل وأركع ركوعا بتواضع، وأسجد سجودا بتخشع، وأقعد على الوِرك الأيسر، وأفرش ظهر قدمها، وأنصب القدم اليمنى على الإبهام، وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا".وحتى لا يذهب بنا الحديث كل مذهب، نكتفي بالتوقف عند الدرس الرابع من دروس هذه الجامعة الربانية، جامعة الإسراء والمعراج فنقول: لقد أثبتت هذه الرحلة أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم نبي القبلتين ووارث الأنبياء السابقين وإمام الأجيال بعده..كما بينت هذه الرحلة، شرف تلك الأرض وقدسية ذلك البلد، وذلك ما يتجلى في قوله تعالى: ((الذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ))[الإسراء: 01]. فإذا كان ما حول المسجد مباركا فكيف بالمسجد نفسه؟
إنه المسجد الأقصى مهد الأنبياء، ومهبط الوحي، وثالث المساجد التي نشد إليها الرحال. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، والـمسجد الأقصى"–رواه البخاري.
فإذا كان صلاح الدين الأيوبي قد طهره من الصليبيين بعد معركة حطين الخالدة، فهل سيطهره المسلمون اليوم من اليهود الغاصبين؟ تحقيقا للحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عباد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود" رواه مسلم.
إن ذلك آت لا ريب فيه...ولكن حين نقاتل باسم الإسلام، لا باسم العروبة والبعثية والقومية....
ربنا لا تؤخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا، واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين-آمين- عباد الله....