الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل في القلوب للأطفال مودة و رحمة ، و جعل لهم في شريعته رعاية وحفظا، فإن الله الذي خلق فسوى وقدر فهدى بث في قلوب خلقه المودة و الرحمة نحو من يلدون و من ينجبون، وجعل في دينه القيم شرائعا وأحكاما، وهب من خلالها للطفل حقوقا لم يعرفها الإنسان من قبل، لأن الله خبير بما يحتاجون إليه وما ينتفعون به ((أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)). [ الملك: 67]
عباد الله : إن الطفل هو النبتة الصغيرة في أول أطوارها، إذا لم يتعاهدها صاحبها بالعناية والسقي و تهيئة الأرض الملائمة و إبعاد الأعشاب الضارة و تزويدها بالضوء الكافي و الأسمدة المساعدة، فإنها سوف تذبل حينا بعد حين وتصير حطاما، ذلكم عباد الله هو مثل النشء الصاعد و الجيل الجديد و الطفولة البريئة .
كأنه نخلـة كنز لزارعــها إذا تعاهدها سقيــا و تـأبيـرا
و إن تقاعس عنها أنتجت إبرا و أطعمت حشفا بالسوس منخورا
و قد حمّل الحق سبحانه و تعالى الآباء مسؤولية أبنائهم فقال : ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ))[التحريم: 6]. وأوضح نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ذلك فقال :"أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهِوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَامْرَأَةُ الرَّجُلِ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ ، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ " متفق عليه.
عباد الله : إن الأبناء هم زينة الحياة الدنيا, وهدية الله للوالدين, ومنحته لهما, قال تعالى: (( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..)) [الكهف : 46] ، وقد أولى الله الطفل عناية فائقة منذ أن يتخلق جنينا في بطن أمه, وحتى يبلغ الرشد، و جعل له حقوقا شرعية، مادية و معنوية أثبتها في كتابه و سنة نبيه و ألزم بها والديه .
فقد دعت تعاليم الإسلام إلى اختيار الزوجة الصالحة لما لها من دور عظيم في تربية الأولاد وتنشئتهم, لأن التربية أساس تعتمد على اختيار الزوجة الصالحة الودود, التي تحسن سياسة أولادها, وتعرف كيفية رعايتهم وإعدادهم, وتحرص على غرس الإيمان في نفوسهم, وتهذيب أخلاقهم, وتنشئتهم على مراقبة الله تعالى, ورعاية حقوقه وحقوق عباده, فالزوجة بمنزلة التربة التي تلقى فيها البذور, فإن كانت صالحة, أنبتت نباتا حسنا. فيجب البحث عن الطيبة الصالحة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها, ولجماله, ولدينها, فاظفر بذات الدين تربت يداك". رواه البخاري.
كما حثت تعاليم الإسلام أيضا على اختيار الزوج المناسب الذي ستناط به مسؤولية تربية الأبناء مستقبلا، و جعل الدين أساسا لهذا الاختيار فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". رواه الترمذي.
و قد بين النبي صلى الله عليه و سلم أهمية حسن اختيار كل طرف لصاحبه، إذ سيكون لذلك الأثر المباشر على تربية الأبناء، فقد قال صلى الله عليه و سلم فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" . رواه البخاري.
عباد الله : إن الله قد جعل للطفل حقوقا مادية منذ بدء تكوينه في بطن أمه, فحافظ عليه من الاعتداء، واحتفظ له بحقه في الحياة، فحرم إجهاض الأم الحامل لولدها، وأبعدها عن المشقة الجسدية والنفسية التي قد تؤثر على الجنين لكي لا يتعرض للسقوط، لدرجة أنه أسقط عنها بعض التكاليف الشرعية حال حملها مثل الصيام إذا خافت على نفسها وولدها، بل حذر الخالق في كتابه العزيز من قتل الأولاد لأي سبب من الأسباب, قال سبحانه وتعالى: ((وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا)) [الإسراء: 31]. كما نهى عن تنفيذ العقوبة الشرعية على الأم الحامل إذا كانت تضر بحملها، وقد ثبت عن رسولنا الكريم صلى الله عليه و سلم هذا الحكم في قصته مع المرأة الغامدية التي زنت فحملت من الزنا فقال لها: "لا نرجمك حتى تضعي ما في بطنك" . رواه مسلم
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من حقوق الأبناء حسن تسميتهم، فقد كان يسمي أبناء أهله وقرابته وأصحابه, ويختار لهم من الأسماء كل ما هو جميل المعنى, طيب الوقع على السمع, ومن هنا أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم حق التسمية للمولود فقال: "كل غلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم سابعه ويحلق شعر رأسه, ويسمى". رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
ومن حق الطفل أن ينتسب إلى أبيه وأمه لما يترتب على ذلك من جملة حقوق شرعية كالنفقة والرضاع والحضانة والإرث وغيرها. وقد أثبت الإسلام حق انتساب الطفل لأبويه حفاظا له من الذل والضياع والعار, وأبطل دعاوى الجاهلية في إفساد النسب, وأقر البنوة الشرعية, قال تعالى: ((ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ)) [الأحزاب: 5].
عباد الله : إن الله جعل للأبناء حق الرعاية التامة، ويشمل الحق في الرضاعة والحضانة والنفقة. قال تعالى: ((وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ..)) [البقرة:233] . وقد أوجب الإسلام هذا الحق للطفل حتى في حال انفصال الوالدين, قال تعالى: ((وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ..)) [الطلاق: 6].
كما أن النفقة حق واجب أقرته الشريعة الإسلامية للطفل على والديه مادام الطفل صغيرا لا يستطيع الكسب وليس له مورد ليعيش منه. حتى يبلغ سن الرشد إن كان ذكرا و حتى تتزوج إن كانت أنثى. قال تعالى: ((وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا..))[البقرة: 233].
أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله ثم الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و من والاه، و بعد، فإن الله لم يثبت للأطفال حقوقا مادية فحسب، بل جعل لهم حقوقا معنوية تكون أساسا لتنشئتهم تنشئة سوية صالحة، لأن الطفل في هذه المرحلة في أفضل المراحل و أحسنها لتعميق الإيمان و غرس المثل و تثبيت المفاهيم الصحيحة، فالطفل في هذه المرحلة، مستمع متلق مقلد و متأثر، و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم المثل الأعلى في مراعاة ذلك، فكان يغرس فيهم العقيدة الصحيحة منذ نعومة أظفارهم، فعن ابن عباس قال : كنت خلفت رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات إحفظ الله يحفظك إحفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف"رواه الترمذي.
كما كان يعلمهم الأدب في أدق تفاصيله ، فعن عبد الرحمن بن محمد بن عمر بن أبي أسلمة قال : حدثنا أبي عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعاه إلى طعام فقال : "تعال يا بني كل مما يليك وكل بيمينك واذكر اسم الله عليه" . رواه ابن حبان.
عباد الله : إن النبي صلى الله عليه و سلم بين أسس التربية الصالحة للأبناء، فقد روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حُب نبيكم ، وحب أهل بيته ، وقراءةالقرآن ، فإن حملة القرآن في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه" أورده السيوطي في الجامع الصغير ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير .
فالناس ليسوا كغيرهم من المخلوقات التي تلد و ترعى صغارها في معاشها دون الاهتمام بما تقوم عليه حياتهم من استقامة في السلوك و سلامة في الاعتقاد و صحة في العبادة، و لا يمكن أن يتم ذلك إلا بربط أبنائنا بكتاب الله و سنة رسوله عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم.
عباد الله : إن من العجائب في دنيا الناس، أن العبد إذا لم يرزق بأولاد تجده يلهث يمنة و يسرة، خلف طبيب أو عشاب أو عراف، كل هذا السعي بغية الحصول على ذرية و إنجاب أولاد، ثم إذا حصل بعد سعيه على أولاد، أو كان ممن رزقه الله إياهم ابتداء، رمى بهم إلى الشارع ، و أوكل تربيتهم إلى المجتمع، و كأنهم ليسوا قطعة منه.
ألا فلنعلم ، عباد الله: أن قيامنا بواجب حسن تربية أبنائنا يضمن لنا صدقة جارية في موازين حسناتنا، و تأمل معي قول المصطفى صلى الله عليه و سلم : "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" رواه مسلم ، كما إنه إبراء للذمة من المساءلة يوم القيامة عن الأمانة التي أستودعها إيانا، فعن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول". رواه النسائي. ثم هو استدامة مورد للحسنات يضخ في أرصدتنا بعد انتقالنا من دار الفناء إلى دار البقاء، فعن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم.
فالله الله في أبنائنا، نرعاهم و نحسن تربيتهم، و نعدهم حَمَلَةً لِلواء الأمة من بعدنا.
عن لجنة إعداد الخطبة بمديرية الشؤون الدينية و الأوقاف لولاية تبسة:
- محمد زغداني : إمام مسجد أنس بن مالك - تبسة
- صلاح الدين صالحي: إمام مسجد الرحمن - تبسة
- ماضي أونيس : إمام المسجد العتيق - العوينات
- بوبكر بوحنيك: إمام مسجد الرحمة - المريج