الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحابته والتابعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد
عباد الله: إن الله سبحانه وتعالى فرض علينا فرائض ، وأوجب علينا واجبات ، بعضها بدني ، وبعضها مالي، وبعضها مالي وبدني في آن واحد ، والحكمة من كل ذلك اختبار إيماننا ويقيننا ، فمن الناس من هو مستعد بجهده ووقته ، لكنه غير مستعد للتضحية بماله ، ومنهم من هو على العكس من ذلك تماما ، والعبادة الحقيقية تعني أن نعبد الله بما شرع ، وبما أوجب علينا ، لا بما نهوى ، ونشتهي ، فإذا أمرنا بالجهد العضلي ، بذلنا الجهد العضلي ، وإذا أمرنا بإنفاق المال ، أنفقتا المال ، وإذا أمرنا بهما جميعا فعلنا ذلك طائعين لله منقادين ، وقد ذكر الله - عز وجل- أولئك المعترضين على أمر الله وفريضته في إنفاق المال ، وشنع عليهم ، ورد حججهم السخيفة ، فقال - جل شأنه -: (( وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين)) (01) فنسي هؤلاء أن المال لله ، وأنه - تعالى - مستخلفهم فيه ، وما هم إلا وكلاء عنه ، يجب أن يأتمروا بأمره وينتهوا عن نهيه ، قال - تعالى - : (( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)) (02) ولم يأمر صاحب المال، ومالكه الحقيقي بإنفاق كل المال ، بل أمر بإنفاق الجزء البسيط واليسير منه ، أي اثنين ونصف في المائة زكاة عن الذهب والفضة ، أو عن ما يقابلهما من الأوراق النقدية ، والعشر أو نصفه زكاة عن الحرث ، وجزء بسيط جدا زكاة عن الماشية ، هذا كل ما يأمرنا الله بإخراجه من الأموال التي جعلها الله بين أيدينا، وقد سمى الله ما ندفعه للفقراء والمساكين من أموال ، زكاةً ، ومعنى الزكاة : النمو والطهارة ، وسميت زكاة ، لأن المال المزكى - بفتح الكاف- ينمو: أي يكثر ويطهر صاحبه ، قال تعالى ( ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم)) (03) فقد أمر الله نبيه أن يدعو للمزكين بالبركة والنمو ، وهو أمر لكل آخذي الزكاة من بعد النبي ،أن يدعو بالبركة للمنفقين ، و هذا الدعاء حض وتحريض لأرباب الأموال بإخراج زكوا تهم ،
عباد الله: إن الله قرن الزكاة بالصلاة في القرآن الكريم، و بمختلف تصريفات الكلمة من ماض ومضارع وأمر ومصدر واسم فاعل ، ففي الماضي قال الله تعالى: (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ( 04 ) وقال في آية أخرى ((فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)) (05) وقال أيضا : (( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين)) ( 06) وقرنها مع الصلاة بصيغة المضارع ، قال الله تعالى: ((الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون)) (07 ) وقرنها مع الصلاة بصيغة الأمر قال الله تعالى: (( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين )) (08 ) وقرنها مع الصلاة بصيغة المصدر قال الله تعالى: (( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)) (09 ) وقال: ((رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار)) (10) وقرنها معها بصيغة اسم الفاعل فقال تعالى: (( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما)) (11 ) كما قرنها معها في حالة الجمع ، كما في الآيات السابقة ، وقرنها معها في حالة الإفراد ، قال تعالى: ( (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة )) (12) وهذا كله يدل على أن الزكاة لا تفارق الصلاة ، لا بالنسبة للفرد المسلم ، ولا للمجتمعات المسلمة ، ولذا قيل : إن الله قرن ثلاثا بثلاث ، قرن الصلاة بالزكاة ، فمن صلى ولم يزك ، فصلاته ناقصة ، وقرن طاعة الله بطاعة رسوله، فلا طاعة لله إلا مع طاعة الرسول ، وقرن شكر الله بشكر الوالدين ، فلا يُقبل شكر لله إلا مع شكر الوالدين ، وإذا كانت هذه هي الزكاة في القرآن المصدر الأول للإسلام ، فإنها لا تقل أهمية في السنة، المصدر الثاني للإسلام ، فقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام الزكاة ركنا من أركان الإسلام ، وأساسا من أسسه الخمس ، فقال صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت" (31)
أيها الإخوة المؤمنون : إن الزكاة عنوان الإسلام وجوهره ، ولا يمكن تصور مجتمع مسلم ، لا تؤدى فيه الزكاة ، وهي ركيزة من ركائز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي ، وهي كذلك دعامة من دعائم أمن المالكين وأموالهم ، فالفقير والمسكين الذي يشعر بالغبن والحاجة ، يتحول إلى قنبلة ممقوتة ، تهدد ثروات الأغنياء وممتلكاتهم ، ما لم ينزع هذا الفتيل بالزكاة ، أي بشيء يأخذه الفقير من هذا المال ، وهو الزكاة التي يتقرب بها الغني للفقير والمسكين ، ويجعلهما يشعران بأن المال لهم ، وسيصلهم جزء من تلك الثروة ، وبالتالي يحميانها ويحافظان عليها ، وما يدفعه الغني من زكاة ليس تبرعا ولا تطوعا منه ، وإنما هو حق لله أولا، وحق للسائل والمحروم ثانيا، كما قال تعالى: ((وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)) (14) ولذا يجب أن يأخذ الفقير حقه من هذا المال وهو مرفوع الرأس ، عال الهامة ، لا يحس بذل ولا إهانة ، ولا يشعر بمنة ولا فقدان كرامة ، وهذا ما يحرص عليه الإسلام ويدعو إليه ، ولذلك لا يجوز أن نترك المحتاجين والمعوزين يصطفون على أبواب الأغنياء ، ويتزاحمون على محلات أرباب العمل ودكاكين التجار، بل يجب أن يأخذوا هذه الزكاة كما يأخذ الموظف راتبه ، والمتقاعد معاشه ، ولم لا يأخذونها من المؤسسات المالية والبريدية ، وذلك عن طريق الحوالات التي يمكنها لهم صندوق الزكاة ، هذه الآلية التي تحقق مقاصد الزكاة ، وتوفر الجهد للدافع والآخذ معا ، وتضمن توزيعها ، بعدالة وإنصاف ، فلن يكون هناك فقير شاطر يأخذ الزكاة من أغنياء متعددين ، وفقير متعفف لا يسأل الناس إلحافا ، ولا يتفطن له أحد، كما قال الله تعالى: (( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا)) (15) .
أيها الإخوة المؤمنون: إن الله ٌقد جعل على الزكاة ثلاثة حراس، حارس السلطان الذي يأخذها من الأغنياء ويدفعها للفقراء ، ويتمثل هذا الحارس اليوم في مؤسسة صندوق الزكاة ، هذه المؤسسة التي تمتلك المعلومات الإحصائية الدقيقة عن المحتاجين فعلا للزكاة ، وتوزعها عليهم حسب درجة الحاجة والاستحقاق ، هذه المعلومات التي لا يمتلكها الفرد الدافع للزكاة ، وبالتالي قد لا يدفعها لمستحقيها ، أو على الأقل لمن هو أولى بها ، لشدة فقره وحاجته ، فالأولى والأحرى بهذا الغني أن يضم زكاته لزكاة إخوانه الأغنياء، فتصير أموالا معتبرة ، ويصبح لها دور وتأثير في محاربة الفقر والقضاء على الفاقة ، بطرق أكثر فاعلية ، وبجدوى اقتصادية ، تجعل الفقير القادر على الكسب والإنتاج منتجا ، فيضيف للمجتمع شيئا بعد أن كان عالة عليه ، وهذا عن طريق القرض الحسن ، الذي يحفزه على العمل وخلق الثروة ويدفعه للاستثمار ، حتى يرد القرض ، فيستفيد منه فقير آخر، وهكذا تتحول الزكاة إلى أداة تحاصر الفقر وتضيق نطاقه ، فالفقير الذي كان يجلس في طابور المعوزين الذين ينتظرون ما يجود به الأغنياء من زكاة ، ومن أجل أن يأخذ شيئا زهيدا يأكله ، ثم يرجع إلى الطابور مرة أخرى ، وهكذا ،هذا الفقير وبسبب سياسة صندوق الزكاة الراشدة قد حذف اسمه من قائمة الفقراء ، ولم يعد موجودا في الطابور الطويل ، لأنه أصبح هو أيضا وبفضل هذه السياسة غنيا ، ومستثمرا كذلك ، إنها سياسة الجدوى الاقتصادية ، التي تجعل الزكاة تسهم في القضاء على البطالة والفقر .
أيها الإخوة المؤمنون: إن سياسة استثمار أموال الزكاة التي ينتهجها صندوق الزكاة في الولايات التي تبلغ فيها مداخل الصندوق ما يفوق أو يساوي 05 مليون دينار جزائري ( 5،000،000،00 ) سياسة تجعل للزكاة مؤسسة كباقي المؤسسات الاقتصادية ، وهذا العصر هو عصر المؤسسات ، فقد نجد الملايير تدفع سنويا كزكاة ، لكن لا أثر لها ، لأنها تحتاج إلى العقلنة والترشيد ، وتحتاج كذلك إلى الفعالية والتوجيه ، فبدل أن تعطي الفقير الشاب القادر على العمل دنانير يأكلها ، وفي الغد يرجع إليك ، الأولى أن تقرضه مبلغا يجعله قادرا على إنشاء مشروعا ، يحل به مشكلة فقره ، ويضيف من خلاله شيئا للأمة ، وبعد أن كان من آخذي الزكاة يصبح دافعا للزكاة،
أيها الإخوة المؤمنون : الحارس الثاني من حراس الزكاة هو المجتمع المسلم ، الذي يحض الغني على أداء حق الله تعالى، فالله لم يفرض الزكاة فقط ، وإنما فرض -أيضا- حض الغني على إخراج الزكاة ، وأوعد من لم يقم بهذا الواجب بوعيد شديد يوم القيامة ، قال تعالى: ((أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين)) (16) وقال - أيضا - ((كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين)) (17) .
أيها الإخوة المؤمنون: الحارس الثالث من حراس الزكاة هو حارس الإيمان الذي بداخل كل مسلم هذا الذي يدفعه ويحركه لأداء هذا الواجب الذي فرضه الله على جميع الأمم ، وفي كل الأديان قـال تعـالى- حكاية عن أمره لبني إسرائيل- : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين)) (18)
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبأحاديث سيد الأولين والآخرين، وأجرني وإياكم من عذابه الأليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحابته والتابعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله: إننا في هذه الأيام نعيش ليالي وأيام شهر المحرم ، هذا الشهر الذي أعتاد المسلمون إخراج زكاتهم فيه ، واعتادت أن تخصصه مساجدنا للحديث عن الزكاة ، وهذه كلها عادات حسنة بلا ريب ولا شك، وإذا كنا في عصر تخصص فيه الأسابيع والشهور لمواضيع تهم المجتمعات ، يتم فيها تحسيس الناس وتبصيرهم بذلك الموضوع وينشر فيهم الوعي بأهميته ، فيجعلون مثلا يوما أو أسبوعا للشجرة، وآخر للبيئة، وثالثا للثقافة ، ورابعا وخامسا و، و، و، الخ ، أليست الزكاة جديرة بأن نجعل لها شهرا إعلاميا، نعرف الناس فيها بأحكامها وحكمها ومنزلتها في الإسلام و، و ، و، و، الخ ؟ إنها جديرة والله بذلك، ولم لا يكن هذا الشهر هو شهر الزكاة ، نعقد لها الندوات والمؤتمرات ، ونقيم لشرحها المعارض والملتقيات ، وهذا لا يعني نسيانها في باقي السنة ، لكن هذه التظاهرة الشهرية تجعل الزكاة حاضرة باقي العام ،
فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ....
الهوامش
01 ـ الآية رقم :47 من سورة يس.
02 ـ جزء من الآية رقم : 07 من سورة الحديد
03 ـ الآية رقم : 103 من سورة التوبة
04 ـ الآية رقم : 277 من سورة البقرة
05 ـ جزء من الآية رقم : 05 من سورة التوبة
06 ـ جزء من الآية رقم : 11 من سورة التوبة
07 ـ الآية رقم :04 من سورة لقمان
08 ـ الآية رقم: 43 من سورة البقرة
09 ـ الآية رقم :73 من سورة الأنبياء
10 ـ الآية رقم :37 من سورة النور
11 ـ الآية رقم : 162من سورة النساء
12 ـ جزء من الآية رقم :177 من سورة البقرة
13 ـ رواه البخاري
14 ـ الآية رقم : 19 من سورة الداريات
15 ـ جزء من الآية رقم 273 من سورة البقرة
16 ـ الآية 1 و 2 و 3 من سورة الماعون
17 ـ الآية 17 و 18 من سورة الفجر
18 ـ الآية 43 من سورة البقرة
الدباغي أحمادو : أمين المجلس العلمي لمؤسسة المسجد - تندوف