الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنا، وأمرنا أن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى، أحمده سبحانه وتعالى أعز دين الإسلام بما شرع من قوانين وأحكام، وأمر خليله إبراهيم عليه السلام أن يؤسس البيت الحرام على هيئة فريدة النظام.
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العلام، الذي اختار للبيت أشرف مقام وطهره من الشرك والآثام وحرر أهله من عبادة الأصنام وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله خير من حج وخير من اعتمر اللهم صلي وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد أيها المسلمون:
فيقول الله تبارك وتعالى : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليـه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين" آل عمران الآية 96-97.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (من حج فلم يرفت ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة.
أيها المسلمون:
إن الحج ركن من أركان الإسلام الخمس وقاعدة من قواعد الدين المتينة وضرورة من ضروريات الحياة المثلى شرعه الله لآداب سامية عالية، وحكم اجتماعية راقية، ومعاني روحية دقيقة لا يدركها من الناس إلى أرباب العقول السليمة والأفكار السامية والنظر البعيد، وذلك حين يخرج المؤمن من بيته وقد بذل ماله وراحته وفارق أولاده وزوجه وأهله وجيرانه وإخوانه ومحبيه وبلده ووطنه قاصدا حج بيت الله الحرام يدفعه الشوق إلى عرفات ويجذبه الغرام إلى منى ويحدوه الحنين إلى طيبة، لتكتحل عيناه بمكة وآثارها، وبالمدينة وأنوارها حيث هناك الروح والريحان والأجر والغفران، والرحمة والرضوان حيث تشفي القلوب وتهنأ الأرواح ويستجاب الدعاء، وكيف لا تشفى قلوب شربت من ماء زمزم الصفي، وكيف لا تهنأ أرواح سعدت بمشاهدة الآثار المقدسة؟ وكيف لا يستجاب دعاء قوم امتزجت أنفاسهم بأنفاس الملائكة المقربين؟ إن هذا الموقف العظيم له عظمته وشأنه عند الله وكيف لا وقد توافد إليه عباده المخلصين من كل فج عميق، يرجون رحمته ويخافون عذابه، وإن رحمة الله قريب من المحسنين فتراهم على كثرتهم وقد تجمعوا في مكان لا يتجاوز بضعة أميال، ناسين الأهل والولد والأموال والتجارة والعادات والتقاليد، والرتب والألقاب وأوسمة وعلى اختلاف أجناسهم وأوطانهم وطبقاتهم ومنازلهم. ينتسبون إلى دين واحد ويقفون في مكان واحدا ويلبسون زيا واحدا ويهتفون بدعاء واحد لرب واحد ( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، فلا ينصرفون إلا وقد سحت عليهم سحائب الرحمة، وصب عليهم وابل الغفران وتحقق لهم كل أمل واستجيب لهم كل دعاء ورجاء، فيا له من موقف عظيم يفبض بالروعة والجلال وينطق بعزة الإسلام والمسلمين لو كانوا يعقلون.
أيها المسلمون:
والحاج في ظل هذه المعاني والمشاعر والروابط التي تربط المسلمين ببيت الله الحرام وبانيه ومشيديه يجب عليه أن يقدر هذا الموقف حق قدره ويكون أحسن ممثل لبلده ولدينه وأن يكون حقا عضوا في كامل العضوية في وفد الله الذي قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( الحجاج والعمار وفد الله إن دعوه أجابهم وأن استغفروه غفر لهم) رواه النسائي وغيره عن أبي هريرة.
إخوة الإيمان:
أيضا مما يهدف إليه الإسلام في تشريع الحج إنه قرر مبدأ الأخوة الإسلامية على مستوى العالم حيث يجتمع الحجاج من أقطار الأرض ولكل منهم جنسه ولونه ولغته وعاداته وتقاليده، ولابد أن يسود مبدأ الأخوة بين الجميع، ولذلك أغلق باب الشحناء عليهم في قوله: " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" وكل إنسان ملزم أن يكف نفسه عن قبيح الكلام وعن الخروج عن جادة الإسلام، وعن النقاش والجدال بقصد التفوق على الغير، فهذه الثلاثة هي التي تورث العداوة وتذهب بالحب، فمتى كف نفسه عنها كان قوله جميلا ودينه متينا، غير منازع غيره على التفوق والتصدر والرئاسة، وهذا هو التدريب الحكيم والعظيم على تأسيس الأخوة بين أمم العالم المسلمة، لاسيما وأن كلا منهم تجرد عن زينة الحياة، وأشرف بروحه ووجدانه على مشهد من مشاهد التوجه إلى الله ممتثلا في التوجه إلى بيته العتيق.
بعيش الحاج في أعماق التاريخ البعيد عند بيت الله الحرام، فيتذكركم من الأنبياء طافوا به حجاجاً قبل إبراهيم وبعد إبراهيم عليه السلام، وكم هجر الناس حرمة البيت فنصبوا حوله الأصنام وعقدوا حول أحلاف العدوان والحرب وطافوا حوله عرايا، وكم عانى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المصاعب هو ومن معه من نجوم الهدى حتى ردوا للبيت حرمته، وطهروه من الأوثان والأرجاس والأوهام، وكم من الملايين طافوا به من المسلمين، وكم تنزلت رحمات الله من حوله غيثا مدرارا لا يقطع، يحسُّ الحاج كل هذه المعاني بوجدانه فيستغرق في حبه لله ولبيت الله ولعباد الله ويتحول إلى إيمان يجسد في سلوكه، وتلك هي غاية الإسلام من تشريعات الحج ومناسكه المباركة.
نسأل الله أن يجعلنا هداة مهتدين.أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين سهل لعباده طريق الخير والسعادة ودعاهم إلى حج بيته الحرام، ليمحو عنهم الذنوب والأوزار، وهيأ لهم بمنه وكرمه سبل الأمن والراحة والاطمئنان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وفق من شاء من عباده لحج بيته وإجابة دعوة ربه فلى مسرعا ولبيته قاصدا ولشعائره معظما وبنبيه مقتديا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه الله بالحنفية السمحاء على فترة من الرسل شريعة غراء هادية مهدية إلى أقوم طريق وأهدى سبيل، اللهم صلي وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد أيها المؤمنون:
فيقول تعالى : " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجلا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم " الحج الآية 27.
إخوة الإيمان: إن الأراضي المقدسة وما لها من ذكريات، وشعائر الحج وما لها من أثر في النفس وقوة في الجماعة، وما لها من إيحاء في الفكر والسلوك...
كل هذا يترك أثره واضحا في أعماق المسلم فيعود من رحلته أصفى قلبا، وأطهر مسلكا وأقوى عزيمة على الخير، وأصلب عودا أمام مغريات الشر، وكلما كان حجه مبرورا خالصا لله كان أثره في حياته المستقبلية يقينا لا ريب فيه.
حيث أن هذه الشحنة الروحية العاطفية تهز كيانه المعنوي هزا، بل تنشئة خلقا آخر، وتعيده كأنما هو مولود من جديد يستقبل الحياة وكله طهر ونقاء، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : ( من حج فلم يرفت ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
جعلني الله وإياكم من المهتدين بهدي الإسلام المتبعين لسنة سيد الأنام، وفقنا الله جميعا إلى الذهاب إلى بيته الحرام، اللهم أصلح لنا أحوالنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، وأختم بالصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا، وتوفنا وأنت راض عنا، الله آت نفوسنا تقواها وزكيها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها فيا نعم المولى ويا نعم النصير، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا وأجعله الوارث منا يا رب العالمين.
عباد اله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
بقلم الإمام: إسماعيل أمحمد