الحمد لله رب العالمين، والصَّلاَة والسلام على سيِّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
فإن اللجنة الوزارية للفتوى، وهي تعايش في هذه الأيام ما أصاب الشعب الجزائري من شدَّةٍ وألَمٍ ومِحَن، وما يُرادٍ له من فتنةٍ عمياءَ متلبّسةٍ بعملِ الشَّيطان، تَرجُو من الله تعالى أن يُتبعَ ذلك رخاءً وأملاً ومِنحًا وسَكينةً تدرأُ هذه الفتنة.
وشُعُورًا من أعضاء اللجنة بواجب النصح والبيان، وخاصة في هذه الظروف الاستثنائية، تؤكِّد في هذا البيان على ما يأتي:
1 ـ التمسك بوحدة المجتمع الجزائري، وهي وحدة عميقة عمق تاريخِ هذا الشعب وأصالتِه الممتدة عبر الزمن الحافل بالأمجاد والأنجاد، وهي وَحدةٌ صنعها السلفُ من الآباء والأجداد، ويحافظ عليها الخلفُ من الأبناء والأحفاد، لتقوى عراها التي التحمت فيها مُقوِّمات الهُويةِ الوطنيةِ؛ الإسلامُ، والعربيّةُ والأمازيغيّةُ، فوق أرض الجزائر، وتحت سمائها، مستمسكين بقول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) [آل عمران/103]، وهذا ما صوَّرهُ إمام الجزائر عبد الحميد ابن باديس الصنهاجي حين قال: ((إن أبناءَ يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلامُ منذ بضعة عشر قرنا، ثم دأبت تلك القرون، تمزجُ ما بينهم في الشّدّة والرّخاء، وتؤلِّف بينهم في العسر واليسر، وتُوحِّدهم في السَّراء والضَّراء، حتّى كوَّنت منهم منذُ أحقابٍ بعيدةٍ عنصرًا مسلما جزائريًّا، أمُّهُ الجزائرُ، وأبوه الإسلامُ. وقد كتب أبناءُ يعرب وأبناء مازيغ آيات اتِّحادَهم على صفحات هذه القرون، بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله، وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدرس لخدمة العلم)).
2 ـ التذكير بأن الإفساد في الأرض من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وخصوصا إذا كان في ذلك إزهاق للأرواح، واستنزاف لمقدّرات الأمة وخيراتها، وهو عنوانٌ لأسوأ ما يمكن أن يقعَ فيه الإنسان من التولي عن مقتضيات العقل والفطرة والشّرع والقانون، لما ينطوي عليه من منهج سقيم، وسلوك قبيح، ممجوج محرّم، قال الله تعالى (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة/205]. وإنَّ اللجنةَ الوزاريةَ للفتوى لَتَستنكِرُ أَشدَّ الاستنكارِ ما وقعَ من جريمةِ حرقِ الغاباتِ في الكثيرِ من ولاياتِ الجزائر وربوع وطــنـِـــنـَـا الــعــزيز، وما ترتّب عن ذلك من سقوط أرواح الشهداء من إخواننا المدنيين وأبناء الجيش الوطني الشعبيِّ البواسلِ، فضلا عن الخسائر المادية المُعتَبرة.
3 ـ التنويه بالجهد الوطني المعهود، الذي صنعته أيادي الشعب الجزائري في هذه الأزمة؛ والدعاء بالخير والبركة والثواب الجزيل لمن أبلى البلاء الحسن في تجسيده؛ من الحماية المدنية، ومصالح الغابات، وقوات الجيش الوطني الشعبي، والسلطات الأمنية المختلفة، والمجتمع المدني، وسائر المتطوعين. وكلُّهم على قلب رجل واحدٍ يتعاونون في إطفاء ألسنة اللهب، وإنقاذ أرواح المواطنين وممتلكاتِهم، ويرسمُونَ أجمل صور التضامن والتكافل، ويجسِّدُون أرقى قيم التكافل والإيثار، وأعظم ملاحم البطولة والتّضحية، وقد انطلقَ الجميع من هدي قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) [المائدة/2]، ومن قول سيدنا رسول الله ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»[أخرجه البخاري ومسلم]، بل ارتقى أفرادٌ من هذا الشَّعب الأبيّ إلى مقام راق، قال الله تعالى فيه: (وَيُوثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر/9].
4 ـ التذكير بأن زرعَ الفتنة، والتفريقَ بين المجتمع الواحد من أكبر المعاصي، فإذا كان قتل الأرواح جريمة عظمى، فإن زرعَ الفتنة ونشرَها والترويجَ لها، بل وتمنِّيهَا أكبر من ذلك وأشدّ، وهذا ما أكَّده البيان الإلهي في قوله تعالى: (والفتنة أشد من القتل) [البقرة/191]، وقوله سبحانه: (والفتنة أكبر من القتل) [البقرة/217]. وعليه فإنَّ أعضاء اللجنة الوزارية للفتوى يَهيبُون بأبناء الجزائر أن يتصدوا لأي محاولة تستهدف المساسَ بالوحدة الوطنية والتفريقَ بين أبناء الشعب الواحد، فإن هذا واجبٌ شرعيٌّ والتزامٌ وطنيُّ، ونحن على يقين بأن رعاية الله تعالى لهذا الشعب ستفضحُ كلَّ هذه المحاولات العدائية البائسة اليائسة وتكسرُها في مهدها، بفضل يقظةِ الشعب، وصدقِه في دينه ووطنيته، وحبِّه لرسوله سيدنا محمد ﷺ، كما قال الإمام ابن باديس من قبل: ((فأيُّ قوَّةٍ بعدَ هذا تستطيع أن تفرقهم!؟ ... كلا والله، بل لا تزيد كل محاولة للتفريق بينهم إلا شدَّةً في اتحادهم، وقُوَّةً لرابطتِهم، والإسلامُ له حارس، واللهُ عليه وكيل)). وقد تجسَّدَ ذلك جَلِيًّا في موقف أسرة جزائرية أسهم فيها الابن المغدور ـ رحمه الله ـ في إطفاء النيران الملتهبة، واجتهد أبوه ـ حفظه الله ـ في وَأْدِ الفتنة المخطَّطِ لها، وقد أدرك بفطرة المؤمن الصابر والمواطن الصالح بأن الفتنةَ نائمة وملعون من أيقظها.
5 ـ الأحكام المتعلقة بالجرائم والحدود والعقوبات من صلاحية أجهزة الدولة فقط، وهيَ قاعدة جليلة من قواعد الشريعة الإسلامية السّمحة، ومبدأ أصيل من مبادئ الفقه والقانون، فإنّ التحرِيَ في الجرائمِ والجنحِ والمخالفاتِ، والحكمَ على المجرمين الذين تمَّ التحقُّقُ من إدانتهم، وتنفيذَ العقوبات عليهم، إنما هو من صلاحيات جهاز العدالة والقضاء الجزائري، ولا يحقُّ لأي فردٍ أن يتدخل في هذا الشأن، لما في ذلك من أسباب الفوضى والاضطراب، ولذلك قال فقهاؤنا: ((لا ينبغي لأحد أن يقيم شيئاً من الحدود دون السلطان)). وإن اللجنة الوزارية للفتوى تُدينُ ذلكَ الفعلَ الإجراميَّ الشاذَّ الذي اقْترَفَتْه أيادٍ آثمة، تعدّت على الشريعة، وتجاوزت القانون، وخرقت قيم الإنسانية، حينما أقدمت على جريمة، تبرّأ منها القريب والبعيد، وكلُّنا ثقةٌ في عدالة ومؤسّسات وطننا.
6 ـ مواصلة الحذر من الإشاعات المغرضة التي يسوِّق لها أعداء الدين والوطن، عبر كل المخططات والوسائل، ومنها وسائط التواصل الاجتماعيّ، والواجب الديني والوطني يقتضي منَّا جميعا ـ خاصة شبابَنا ـ العملَ على مواجهتها ومجابهتها، وتجنب التورُّطِ فيها والسقوطِ في شباكها، وعدم الانسياق إلى إفكها وبهتانها، والامتناع عن نشر زيفها وأكاذيبها، فإن في ذلك تهديدا للأمن النفسي للمجتمع، وإضعافا للروح المعنوية، وإننا نُعيذ أبناء الجزائر أن يكونوا ممّن قال فيهم الله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ) [المائدة/41]، ونَهيبُ بهم أن يكونوا ممّن قال فيهم الله تعالى: (لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ)[النور/12]، وأن يكونوا ممن يعرفون للكلمة قيمتها ووزنها وأثرها، ويلتزموا بهدي النبي ﷺ القائل: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» [البخاري ومسلم].
نسأل الله تعالى الحيَّ القيومَ الحليمَ العظيمَ ـ بعبوديتنا له التي شرفَّنَا بها، وبرحمته التي وسعت كل شيء، وبنعمه التي لاَ تُعَدُّ ولا تُحصى ـ أن يُنزلَ شآبيبَ رحمتِه ورضوانه على شهداء الجزائر من المدنيِّينَ، وأبناء الجيش الوطني الشعبي، الذين ضَحوا بأنفسِهم من أجل إخوانِهم وأخواتهم، وأن يرزقَنَا وذَويهم الصبرَ والسُّلوانَ، كما نسأله سبحانه باسمه الشافي أن ينزل على كل المرضى شفاءً عاجلاً لا يغادرُ سقمًا، وأن يَحفَّ وطنَنَا بالسّلمِ والأمنِ والطّمأنينةِ والسَّخاءِ والرَّخاءِ، وأن يثيبَ شعبَنا الجزائريَّ على تضامنه وجهوده وجميل صبره (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب) [الزمر/10]، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.