الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، رب المشرقين ورب المغربين، فاطر السماوات السبع والأرضين، منزل القرآن دستورا للعالمين، وشريعة ليوم الدين، بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا لعموم الثقلين، أيده بالحجة والبرهان، وأكرمه بالقرآن، المعجزة المستمرة على تعاقب الدهور والأزمان، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيي عن بينة، فسبحان من اقتضت حكمته صيرورة الناس إلى فريقين: فريق السعداء الفائزين، وفريق الأشقياء المحرومين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر المحجلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله في السر والعلن، وفي المنشط والمكره وفي العسر واليسر، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما))[الأحزاب: 70-71]، ألا وإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وبعد:
فقد قال الله تعالى في محكم تبيانه وهو أصدق القائلين: (..فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها، وكذلك اليوم تنسى)[ طه: 123-126].
عباد الله: إن مما هو مثار جدل والتباس لدى الكثيرين قديما وحديثا هو الوقوف على حقيقة السعادة، إذ إن هذه القضية من مهمات الأمور التي لا بد أن نقف عندها وقفة متأنية، نخوض غمارها، ونكشف أسرارها، حيث أرقت هذه المسألة الكثيرين، وأسالت أقلام العديدين، وتشعبت فيها آراء الباحثين، وما وفَّوها حقها، وما استقروا على بر الأمان في تحديد مفهومها، فقد ضلت في بحرها الخضم أفهام، وزلت في تلمس معالمها أقدام، وانتكست في بحثها أقلام، لأن جل من خاض غمار هذا الموضوع لم يُعِدّ له عدته، ولم يحقق شروط اقتحامه.
فتجد المحللين من علماء الاجتماع والنفس والفلسفة والاقتصاد وغيرهم يعتمدون في تحديد مفهوم السعادة على العقل المجرد، مهمشين في حكمهم هدي السماء، والنور الذي أنزله الله لهداية الحيارى في حالك الظلماء.
- فمنهم من يفسر السعادة باللذة والمنفعة، حيث يظنها تنعما بأنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح، أو لذة الجاه والمال، والتفنن بأنواع الشهوات، فمتى حصل الإنسان لذته، وأشبع غريزته وشهوته، فهو السعيد الذي ابتسمت له الحياة، ورقصت له الأيام طربا وفرحا، ومن حرم هذه اللذات العابرة، ولم يستطع تحصيل المنافع العاجلة، فهو الشقي الذي عبست في وجهه الحياة، وتعس بها وتعست به، ولا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم، بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان، فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والأنعام، فهو مثلها أو أضل منها، قال تعالى: ((ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون)) [الأعراف: 179].
نهارك يا مغـرور سهو وغفلة وليلك نـوم والأسى لك لازم
تسـر بما يفنى وتفرح بالمـنى كما سر باللذات في النوم حالم
وشغلك فيما سوف تكره غبَّه كذلك في الدنيـا تعيش البهائم
- ومنهم من يحسبها تميزا في جسمه وبدنه، كصحته واعتدال مزاجه، وحسن تركيبه وصفاء لونه، وقوة أعضائه وجمال خلقته، فإذا أنعم الله على عبده ببعض هذه النعم ظن بأنه قد ملك مفاتيح السعادة، وارتقى سؤدد المجد، ونسي هذا الغافل بأن الإنسان إنسان بروحه وقلبه، لا بجسمه وبدنه، كما قيل:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
- ومنهم من يزعم بأن السعادة جري وراء الحرية المطلقة، بأن يعيش الفرد متحررا من جميع القيود والأغلال والالتزامات، لا يراعي حرمة أحد، ولا يحترم حق أحد، يفعل ما بدا له دون وازع ولا رقيب، ونسي بأن حرية الإنسان تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين، وأن الله عز وجل تعبد خلقه بشرائع، وحد لهم حدودا، لا ينبغي أن يتعدوا معالمها، قال تعالى: ((...ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه...))[الطلاق: 01].
- ومنهم من يظن السعادة تعذيب الجسد، وحرمانه من حقوقه وضرورياته، تهذيبا للروح وسموا بها زعما منهم، كما هو شأن الرهبانية عند النصارى، ((...ورهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم...))[الحديد:27]، وقال صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون"، قال النووي: المتنطعون هم المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الحليم العظيم لي ولكم، ويا فوز المستغفرين، أستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة على النبي المصطفى، ومن بآثاره اقتفى، وبعهد الله وفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
أمة الإسلام: وبين ذينك المفهومين المتطرفين: التركيز على لذات الجسد وشهواته من جهة، والاهتمام بالناحية الروحية والترهبن من جهة ثانية، نجد دين الوسطية، والشريعة المحمدية، تهدم كلا من المفهومين، وتؤصل منهجا معتدلا يوفق بين الروح والجسد، وبين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
إن نظرة الإسلام للسعادة نظرة شمولية، لا تعتمد على زاوية وإهمال أخرى، كيف لا وهو شريعة رب العالمين، الذي خلق النفس البشرية، وهو أعلم بدقائقها وخباياها وأسرارها.
إذ نجد الإسلام يولي عناية للجانب المادي في الحياة، فهو لا يلغيه بالكلية، فيحث الناس على التكسب للمعاش، وعلى اتخاذ المسكن والمركب، والاهتمام بصحة البدن وعافيته، وأن يأخذ الإنسان بنصيبه المقدر له في الدنيا، قال الله تعالى في شأن قارون: ((...ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك...))[القصص: 77].
وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص حين عزم على صيام الدهر، وقيام الليل كله: "إن لجسدك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه"، وقال أيضا: "من سعادة ابن آدم: الزوجة الصالحة، والمركب المريح، والبيت الواسع".
كما يعتبر الإسلام الأمان والعافية والكفاية والطمأنينة في النفس والمال والأهل من عوامل السعادة التي لا ينبغي أن يستهان بها، قال صلى الله عليه وسلم: "من أصبح آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
أيها المؤمنون الصادقون: إن نعمة الأمن من أعظم النعم التي امتن الله بها على عباده، فقال عز من قائل: ((فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف))[قريش:3-4].
فلنعمل على حفظ أمن البلد، ولنصل إلى حقوقنا المشروعة بسلوك سبيل الرشد، فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
أمة الإسلام: لا شك أن تحصيل هذه الأمور المادية تجلب السعادة لصاحبها إذا وظفت في مرضاة الله تعالى، واتخذت سبيلا وطريقا لتحقيق الغاية التي من أجلها خلق الإنسان، ألا وهي العبودية المطلقة لله، ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون))[الذاريات: 56]، ففلسفة الإسلام اتجاه ماديات الحياة أن تكون وسيلة تكتسب، لا غاية يصبى إليها، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول في دعائنا: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، اللهم اجعلها في أيدينا، ولا تجعلها في قلوبنا).
عباد الله: إني داع فأمنوا.
من إعداد : عماد بن عامر إمام أستاذ
وخطيب المسجد الكبير- الجزائر العاصمة