الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل ((إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) نحمده سبحانه وتعالى فضَّل المجاهدين على القاعدين درجات ووعدهم النصر والتمتع بنعم الجنان ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة من آمنوا به حق الإيمان واعتقدوا بأنه لا يخلف الميعاد فوطنوا أنفسهم لملاقاة الأعداء المعتدين على العباد الذين طغوا في بلادنا وأكثروا فيها الظلم والفساد ،ونشهد أن سيدنا وحبيبنا رسول الله قائد الغر المحجلين وإمام المجاهدين وقدوتهم الحسنة في جهاد الكافرين المتعنتين وفي كل الميادين،اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه وعلى جميع العاملين على إقامة صرح هذا الدين وإجلاء خصومه من أراضي الإسلام والمسلمين أما بعد:
فإن للأمم والشعوب محطات منيرة في ماضيها التليد يعود إليها الخلف من حين إلى آخر ليذكر أمجاد السلف وينظر إلى تاريخه بأعين الحاضر لأن الذكرى لا شك تنفع المؤمنين بالإضافة إلى تزويده بالعبر كي يسير على نهج قويم، خال من العثرات فيحافظ بذلك على الذاكرة الجماعية لأمته، الأمة الإسلامية في أمة القرآن إليه يرد أصلها والأمة الجزائرية هي فرع من هذه الأمة وبه يعرف نسبها ومنه نسجت وتنسج ما تلبس من حال العزة والكرامة والسيادة وأن يمسك وجودها إلا رعايتها للقرآن الكريم واجتماعها عليه.
وتاريخ الأمة الجزائرية مع القرآن الكريم يشهد ذلك شهادة قائمة على هذا الحساب مقدرة بهذا التقدير جارية معه طرداً وعكساً فإنه على قدر ما كان يقرب المسلمون من كتابهم الكريم وبقدر ما كانوا يرعون حقه ويؤدون أمانته كان نصيبهم من الخير وكان حظهم من السلامة في أنفسهم وأموالهم ووطنهم والعكس صحيح، "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين".
وها نحن اليوم نذكر أنفسنا ونذكركم ونقف مع الذكرى 11 ديسمبر لنتعرف بأسبابها وانعكاساتها على مسيرة الثورة التحريرية وتثير حولها بعض التساؤلات المتعلقة بواجب الذاكرات وواجب العدالة والتاريخ فالذاكرة الفردية هي خاصية نفسية تخلد في ذهن كل إنسان واعي بالأوضاع التي عاشتها والأحاسيس التي شعر بها والنار التي اكتوى بها، فالذاكرة غير المعبر عنها تكون ضعيفة لأنها يمكن أن تموه وتوارى من قبل ذاكرة الوقائع قريبة العهد وتكتب من قبل أمور دفاعية مضادة للأحاسيس الأليمة جدا لأجل ذلك تصان الذاكرة من خلال التعبير عنها وعادة ما تغلب الرغبة في نقل الذاكرة إلى الأجيال القادمة، فالذاكرة الجماعية ليست مجرد جمع للعديد من الذاكرات الفردية ولكن هي بناء واع وإرادي إلى حد ما ينتج عن وصل بعضها البعض.
وإذا كانت ذكرى 11 ديسمبر المفجعة لا تزال حية في الشعور الوطني حيث يحتفل بها رسميا كل سنة يمكن أن نتحدث الظروف المحلية التي جرت فيها المظاهرات – ورد فعل العسكر عليها – وآثارها على سياسة العدو المستعمر ونتائجها و على مسيرة الثورة الجزائرية.
لقد شرع الشعب الجزائري في استعمال المظاهرات كسلاح جديد في السنوات الأخيرة من الثورة الجزائرية، وذلك لعدة أسباب أبرزها أنها جاءت كرد فعل على مشروع العدو العسكري الذي ضيق كثيراً على جيش التحرير الوطني واضطره إلى مغادرة العديد من مواقعه وإلى تصغير عدد وحداته مما دفع الشعب إلى تظاهرات في الشوارع بهدف إبطال مفعول الخطط العسكرية الاستعمارية، واشتغاله عن جيش التحرير الوطني ومن أبرز هذه المظاهرات مظاهرات 11 ديسمبر 1960 فهل تمكنت هذه المظاهرات من تحقيق الأهداف التي رسمتها لنفسها؟
لقد انطلقت هذه المظاهرات في 11 ديسمبر 1960م وذلك بعد مرور 6سنوات على اندلاع الثورة التحريرية، هذه المدة التي كانت مليئة بالانتصارات السياسية والعسكرية على الاستعمار الفرنسي كما أن هذه المظاهرات جاءت متزامنة مع زيارة الجنرال ديغول إلى الجزائر والتي شرع فيها في 09 ديسمبر وهذا بعد مرور سنتين ونصف من توليه رئاسة الجمهورية الفرنسية قام خلالها بانتهاج العديد من الأساليب الجهنمية الرامية إلى إخماد الثورة الجزائرية وكان يأمل في هذه الزيارة أن يرى شعباً مستسلماً يلقاه بالورود والتصفيق وأن يقطف ثماره العملية العسكرية المنظمة في إطار المشروع المذكور إلا أنه وجد شيئا مغايرا تماما لأماله وأحلامه، وجد شعباً متظاهراً بشكل عنيف في جميع شوارع مدن الجزائر.
وتتمثل الشرارة المفجرة لهذه المظاهرات في قيام مجموعة من المعمرين الأعداء بالجزائر العاصمة بالاعتداء على ثلاث جزائريين وانهالوا عليهم ضرباً وتعذيباً فتجمع بعض الجزائريين للدفاع عن إخوانهم ففر الأعداء وتركوا المكان للقوات الفرنسية التي راحت تطلق نيرانها على الجزائريين فأنتشرت الأخبار واندفعت الأمواج من الرجال والنساء يحملون الأعلام الجزائرية ويهتفون بحياة الجزائر المستقلة وبحياة جبهة التحرير الوطني، وانتقلت أخبار هذه المظاهرات إلى كل المدن الجزائرية، "الجزائر العاصمة، باتنة، قسنطينة، البليدة، عنابة، تيزي وزو، شلف، وهران، سيدي بلعباس"، واستمـرت إلى غاية 16 ديسمبر، ترى كيف كان رد فعل العدو على هذه الأمواج البشرية؟ لقد تصدت لها قوات العدو بمختلف أسلحتها مما جعل المظاهرة السلمية تنقلب إلى معركة دامية بين المدنيين العزل والقوات الفرنسية فأطلقوا النار على المدنيين فقتلوا منهم ما يربوا عن 300 نهيك عن الجرحى الذين قام الجيش الفرنسي بدفعهم وهم أحياء وزج بالكثير من المواطنين في السجون ورغم كل هذه القسوة والبطش لم تتوقف المظاهرات إلى أن طلب رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة من الشعب توقيفها مما جعل سياسة العدو اتجاه الجزائر تتأثر كثيرا بهذه المظاهرات.
فنحمد الله على نعمه المتوالية بنصره المبين ولنحافظ على أمانة شهدائنا وهي عهد في رقابنا متين ولنعتصم بحبل ديننا وإخوتنا ليسدد الله خطانا ويغلبنا على كل ما يتعرض لمسيرتنا ويبلغنا أهدافنا وتوبوا إلى الله جميعا أيها المِؤمنون لعلكم تفلحون واستغفروا الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد رجال صدقوا الله ما عهدوا عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا نحمده سبحانه وتعالى رفع قيمة المجاهدين على القاعدين، وبوأهم مقعد صدق وفضلهم تفضيلا،ونشهد أن لا إله إلا الله فرض الجهاد على المؤمنين لحماية أوطان المسلمين.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا رسول الله جاهد في الله حق جهاده وثبت أمام الأعداء حتى النصر المبين اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه الذين أيدوه في دعوته وتبليغ رسالته بالأنفس والأموال وعلى كل من سلك طريقهم إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فيا أمة الإسلام قال تعالى في كتابه الكريم: (( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَات لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورِ)) [سورة إبراهيم: الآية 05] ومن الذكريات التي يجب علينا أن نتذكرها كجزائريين ذكرى 11 ديسمبر التي تركت أثرا واضحا على سياسة الجنرال ديغول من أثرها ما يلي:
وجد الجنرال العدو نفسه خلال زيارته للجزائر أمام جماهير غاضبة معادية تهتف بحياة الجزائر وباستقلالها وبحياة جبهة التحرير الوطني مما دفع به إلى قطع هذه الزيارة والرجوع على وجه السرعة إلى فرنسا وذلك يوم 13 ديسمبر وهذا بعد أن أخذ معه انطباعا جديدا عن الوضع العام في الجزائر واقتنع بأن الشعب الجزائري متمسك بكل قواه باستقلال الجزائر وجبهة التحرير الوطني كممثل وحيد وشرعي له مما جعله يغير في خطابه عن الجزائر في يوم 20 ديسمبر 1960 الذي أعلن فيه عن عزمه على إجراء استفتاء عام حول القضية الجزائرية يوم 08/01/1961بصيغة، هل توافق على حق تقرير المصير الجزائريين عند إقامة السلام وصرح كذلك بأنه مستعد في أي وقت لاستقبال ممثلين عن أولئك الذين يحملون السلاح في وجه العدو بشرط وقف إطلاق النار ومما لا شك فيه أن لهذه المظاهرات نتائج هامة على مستوى مسار الثورة التحريرية ففي ما تتمثل هذه النتائج؟.
لقد ترتبت على هذه المظاهرات العديد من النتائج الايجابية التي أثرت كثيرا على مسيرة الثورة التحريرية ويمكن تحديدها هذه النتائج في النقاط التالية:
1- دخول الثورة بشكل قوي إلى المدن وتعبير كامل من الشعب الجزائري عن تمسكه العميق بثورته التي يقودها جيش جبهة التحرير الوطني مما جعل من هذه المظاهرات بعثا جديدا للثورة الجزائرية.
2- خلقت هذه المظاهرات تيارا واسعا مناهضا للاستعمار في أوساط الشعب الفرنسي خاصة لدى المثقفين.
3- اقتناع المعمرين بأن وقت الرحيل قد حان إذ يقول أحد الأعداء لمراسل جريدة فرنسية الصادرة بتاريخ 14/12" والآن لم يبق لنا إلا أن نحاول المحافظة على الأمن ريثما نحزم أمتعتنا ونركب الباخرة بل نجد أن هذه الفكرة دخلت في أوساط الجيش فها هو أحد الضباط يصرح قائلا :" لقد دقت ساعة الحقيقة أن الدمل قد فقع، لقد فقع بعد أن نضج طيلة ست سنوات.
*4* اقتناع القائد بأن الشعب متمسك بجبهة التحرير الوطني كممثل وحيد وشرعي له.
*5* تحقيق القضية الجزائرية انتصارا لها في الأمم المتحدة التي كانت جمعيتها العامة في اجتماع واضطرت إلى رفض لائحة تقدمت بها الكتلة الأسيوية الإفريقية للتصويت عليها وتنص على إشراف الأمم المتحدة ومراقبتها لتقرير المصير في الجزائر.
*6* كسب الثورة لمزيد من التضامن مع الدول.
فأحداث 11 ديسمبر 1960 كانت فصل خطاب في زمن الارتياب لميلاد نوفمبر الحقيقة والأسطورة، وتظهر صورة جديدة باتت تغيبها فرنسا الاستعمارية عن الأمة الجزائرية في التلاحم والإتحاد لنصرة قضيته التي رسمها نوفمبر الثورة بريشة الجهاد، وبمداد الشهداء جوهرها الصدق والإيمان والوفاء للوطن.
وعلينا اليوم ونحن في ذكرى الخمسين أن نغذي ضمائر أجيالنا الصاعدة بمآثر وتضحيات أبائهم فينشئون مشبعين بقيم حب الوطن والدفاع عن وحدته الترابية وسلامة نهجه.
فالمطلوب منا نحن أبناء ذات رسالة تعزيز تراثنا والاهتمام بتاريخنا وامتلاك ناصية المعرفة والعلوم وزرع بذور المصالحة والتصالح وشحذ الهمم الخيرة واستئصال جذور ومظاهر الفتنة ونبذ الفرقة والتشرذم وإزالة الانطواء وإعطاء العمل قيمته وللعلم مكانته.
إن تاريخ ثورة التحرير يمكننا استنباط واستقراء ما تدعو إليه اليوم وما يصبوا إليه أبناء الجزائر الذين أثبتوا عزمهم دائماً في مختلف المواعيد المصيرية في الدفاع عن الحق واختيار المصالحة الوطنية نهجاً قويما يساهم في تعزيز الشعور بالانتماء الحضاري والمشاركة الفعالة في الإصلاحات الواسعة التي تمس وتشمل العديد من المؤسسات والمواضيع وتهدف جملة وتفصيلا إلى النهوض بتنمية متوازنة تحقق الرفاهية وتعيد الأمل المنشود في جزائرنا، لاستكمال مشروعنا الوطني التحريري الذي بشرت به ثورتنا المجيدة.
إنه يوم خالد سيبقى ما تعاقبت الأجيال إلى يوم الناس وإلى يوم المنادي، اللهم تقبل أعمالنا وأكتب أسماءنا في سجل المجاهدين المخلصين ووفق أمتنا للسير على طريقهم يا مجيب السائلين اللهم انصر المسلمين ورؤسائهم على كلمة سواء وأجعل النصر في ركابهم معقود لهم ولأمتهم على كل عدو مبين وأرحم شهداءنا وأجزهم عنا وعن أوطانهم ودينهم خير الجزاء اللهم إنا نسألك في هذا اليوم الأغر أن توفق شبيبتنا إلى ما فيه عز الإسلام ورقي الوطن والمواطن أمين، المجد والخلود لشهدائنا الأبرار- تحيا الجزائر عزيزة كريمة-
بقلم الإمام: النابلسي بلعباسي